جريدة الشرق الاوسط
مأمون فندي
كتبت في أول أكتوبر في هذه الصحيفة مقالا بعنوان «مصر قبل الانفلات الكبير»، قلت فيه بالحرف الواحد «جمعة استرداد الثورة في مصر هي جمعة ما قبل الانفلات الكبير، وما هذا بمبالغة، وأشعر بالخوف وأنا أستخدم عبارة الانفلات الكبير لما يعنيه هذا لبلد عربي قوامه أكثر من 80 مليون نسمة، ولكن الأمور في مصر تأخذ منحى خطرا ليس على الثورة فحسب بل على الوطن وعلى دول الجوار أيضا. المهم الآن هو معرفة الأسباب التي أوصلتنا إلى حافة الهاوية، وهل يمكن أن نتراجع عنها أو نوقف تلك المواجهة التي بدت حتمية في مصر»؟
وها نحن وجها لوجه أمام هذا الانفلات الكبير، ويبدو، رغم أننا بلد بنى الأهرامات، إلا أننا تخصصنا الآن في الهدم ونبدو غير قادرين على البناء. غير قادرين على توصيف ما يحدث منا ولنا، والوصف هو نصف العلم. وهنا أعيد بعد مقاطع مقال الشهر الماضي لما فيه من توصيف للوضع الذي نراه الآن في ميدان التحرير وفي ربوع مصر كلها تقريبا. إن أصل الأزمة في مصر اليوم هو تلك الفجوة التي تتسع يوما بعد يوم، ما بين توقعات الناس بما يمكن أن تنجزه الثورة وبين ما حصلوا عليه بالفعل بعد أن نقل مبارك صلاحياته الرئاسية وإدارة شؤون البلاد للمجلس العسكري. وسأضرب بعض الأمثلة لاتساع الفجوة بين التوقعات الثورية وما حصل عليه الناس مما أدى إلى مزيد من الإحباط والغضب، ومعه تآكل الثقة بين المجلس العسكري والشعب، والأخطر أن ثقة الناس بدأت تهتز في الجيش ذاته وهذا إنذار لشر كبير.
كانت هناك مثلا، آمال في حرية الإعلام فجاء المجلس العسكري بوزير إعلام أقرب إلى وزراء الإعلام في العهد الشمولي، أغلق القنوات الفضائية ومنع الترخيص لقنوات جديدة وصادر أعداد الصحف التي تنتقد المجلس إلى آخر ممارسات الشمولية العتيدة. كان الناس يحلمون بنهاية نظام أمن الدولة وممارساته مثل التعذيب وتلفيق التهم التي أدت إلى اشتعال شرارة الثورة، وها هو أمن الدولة يمارس أساليب التعذيب نفسها بالصواعق الكهربائية كتلك التي رأيناها منشورة على «اليوتيوب». ليس هذا فقط بل أشرك أمن الدولة بعض ضباط الجيش في تلك الممارسات وكأنه يدربهم عليها. وإذا ما رأى الناس ضابط جيش مصريا برتبة نقيب أو عقيد يمارس هذه الأساليب، فثقة الناس في الجيش سوف تهتز لا محالة، وقدرة الشعب على الغفران محدودة. بقي جهاز أمن الدولة سيئ السمعة وبقيت ممارساته بعد الثورة وكأن شيئا لم يكن.. الثورة وئدت في المهد.
قامت الثورة من أجل إنهاء حالة الطوارئ التي تتخذ فيها الدولة إجراءات مبالغا فيها بعيدا عن الأطر القانونية المعروفة، وبالأمس انتهى زمن حالة الطوارئ كما حددها الإعلان الدستوري ومع ذلك لم يصدر المجلس العسكري أي بيان يعني نهاية الطوارئ، بل زاد منها وغلظها بعد حادثة السفارة الإسرائيلية والتي قيل إنها مفبركة لتثبيت حالة الطوارئ.
قامت الثورة من أجل إنهاء نظام البلطجة السياسية والثقافية والبلطجة الفعلية، ولكن البلطجة في مصر هذه الأيام أصبحت ظاهرة عامة تشمل كل مناحي الحياة بما فيها بعض عناصر الحكم وأدواته.
قامت الثورة من أجل إسقاط دستور 1971 بكل ما يحمله من مواد متخلفة ومقيدة للحريات، وقال اللواء ممدوح شاهين مساعد وزير الدفاع بأن هذا الدستور سقط ولذا لجأنا للاستفتاء على الإعلان الدستوري، وبعدها بشهور غيّر الإعلان الدستوري وقال إن ما قام به المجلس مشروع في ظل الدستور لأن الدستور لم يسقط، ولم يعرف المصريون هل سقط الدستور أم لم يسقط، ففي كل يوم تقريبا يظهر أحد اللواءات ويكلم فضائية من الفضائيات ويقول ما يعنّ له في اللحظة من دون دراسة، أو هكذا تبدو الأمور.
ثم جاء المجلس بدفتر حسني مبارك من الرئاسة على ما يبدو وقرأه، وتعامل مع مصر كما كان يتعامل معها مبارك. كان المجلس يريد حوارا مع المثقفين، فجاء بنفس الوجوه التي كان يطلبها مبارك عندما يريد حوارا مع المثقفين. أرادوا أن يديروا حوارا وطنيا فجاءوا بنفس اللستة الخاصة بمؤتمرات مبارك، نفس الوجوه ونفس الناس بل «نفس العواجيز»، كما يقول شباب الثورة.
الثورة تسير في اتجاه، والعسكر يسيرون في اتجاه. من يذكر منكم حادثة ذهاب الثوار إلى العباسية منذ شهر مضى للتظاهر أمام مقر المجلس العسكري، يومها حدثت مصادمات يبدو أنها بروفة للقادم من مصادمات أعنف إن لم يقرر المجلس أن يتخذ قرارات تتناسب مع طموحات الشعب من الثورة. حتى الآن هناك انطباع بأن المجلس يقف ضد الثورة، وهذه الانطباعات في ازدياد، ولكن المجلس العسكري يستمع إلى نصائح من كانوا في دفتر مبارك، وآخر تلك النصائح المكلفة هو تصوير المشير طنطاوي بالبدلة المدنية في وسط شوارع القاهرة. من قدم هذه النصيحة للعسكر يبدو أنه لا يعرف أنها ستكون مصدر سخرية، وأن بداية تآكل الشرعية تأتي من السخرية، وهكذا كان. ودخلت بدلة المشير موسوعة سخرية المصريين كما دخلها أبو جلابية من قبل.
إن حالة تآكل شرعية المجلس العسكري ستدفعه لتسليم السلطة «لأي حد»، لأن السلطة بشكلها الحالي أصبحت كجمرة النار التي لا بد للمجلس أن يلقيها بعيدا قبل أن تحرقه، ولكن سيلقيها لمن أو على من؟ تلك ستكون بداية الانفلات الكبير، ما سوف تسفر عنه جمعة استرداد الثورة سيحدد حجم الانفلات الكبير المتوقع، ولكن المؤكد أن الجميع سيتبادلون إلقاء الجمر على بعضهم البعض، فكيف لنا أن نوقف هذا الانفلات؟
مرة أخرى مصر أمام تحدي الانفلات الكبير ويبدو أن المجلس العسكري ليس لديه الرغبة أو الخيال السياسي ليخرج مصر من الأزمة، هو فقط يورط الجيش ولو بالتهم البعيدة في دماء المصريين، وهذه أكبر مأساة لمصر. ويبدو أن مصر ستظل على تنويعات هذه الحال ليس لعام أو عامين وإنما لعقد من الزمان، لأننا أخذنا الثورة في المسار الخطأ وبسوء نية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق