الجمعة، 27 يناير 2012

حلقات من كتاب عبداللطيف المناوى «الأيام الأخيرة لنظام مبارك»

«المصري اليوم» تنشر حلقات من كتاب عبداللطيف المناوى «الأيام الأخيرة لنظام مبارك»..الحلقة الثانية

تواصل «المصرى اليوم»، نشر حلقات من كتاب «الأيام الأخيرة لنظام مبارك.. 18 يوماً.. أسرار القصر الجمهورى وكواليس ماسبيرو» للإعلامى عبداللطيف المناوى، الرئيس السابق لقطاع الأخبار فى التليفزيون المصرى، وهو الكتاب الذى صدر مؤخراً فى طبعتين باللغتين العربية والإنجليزية عن الدار المصرية اللبنانية

ويقدم «المناوى» فى كتابه تفاصيل سرية، لم تنشر من قبل، عما كان يجرى فى القصر الجمهورى خلال الفترة بين 25 يناير و11 فبراير، وطبيعة الأدوار التى قامت بها الشخصيات الرئيسية فى النظام السابق، من واقع مسؤوليته عن الإعلام الرسمى للدولة فى السنوات الأخيرة، وقربه من مصادر المعلومات الأصلية لأسرة الحكم فى البلاد. ويمكن اعتبار الكتاب أول شهادة حقيقية عن أسرار الأيام الأخيرة فى نظام مبارك، وإجابة عن سؤال كان ولايزال يشغل بال المصريين منذ اندلاع الثورة: ما الذى كان يجرى فى دهاليز الحكم وما الذى كان يفكر فيه ويخطط له النظام؟

صباح الاثنين 24 يناير توجهتُ إلى مكتبى، شمسُ القاهرة ساطعة، درجة الحرارة 19 درجة مئوية، وشوارعها مزدحمة كعادتها دائمًا، دخلتُ إلى مكتبى، تحدثتُ مع زملائى، كلَّفتُ مجموعةً بتحديد أسماء الفاعلين فى الجماعات الشبابية المختلفة، كفاية، 6 أبريل، خالد سعيد، وطلبتُ من زميل آخر إعداد أحد الاستديوهات على طريقة «تاون هول»، بحيث يجلس الحضور فى دائرة وتجلس الشخصيات المتحدثة فى وسط الدائرة على مستوى واحد، وصعدت إلى الطابق التاسع، حيث مكتب الوزير، الذى بادرنى بالسؤال عن رأيى فيما يجرى، فحدثتُه عن تقديرى، وأخبرته -برأيى- أن ما يصلح لهذه المرحلة هو أن يُفتح المجال لهؤلاء الشباب، لكى يظهروا على شاشة التليفزيون، ليتحدثوا عن ملاحظاتهم وانتقاداتهم، وأن يشارك معهم 4 أو 5 ممن أطلقتُ عليهم تعبير «عقلاء الأمة»، وبعد المناقشة اقتنع الوزير بالفكرة، وأضاف إليها أنَّ هؤلاء الشباب يمكن أن يجلسوا مع 4 من الوزراء فى الحكومة، الذين لهم شعبية، أو قدرةٌ على الحوار مع الشباب، وحدَّد بالاسم المهندس رشيد محمد رشيد، ويوسف بطرس غالى، وأحمد المغربى، وهو شخصيًّا، فاقترحت عليه فى المقابل، أنه يمكن أن نحدِثَ مزجا بين هؤلاء وهؤلاء، لكنْ فى البداية، دعنا ننفذ الفكرة، فطلبَ عرض الأمر على مكتب الحزب، الذى كان مجتمعًا فى تلك الأثناء، فى مقر الحزب على بعد أمتار قليلة من مبنى التليفزيون.

اتصل الوزير الفقى بجمال مبارك، ليذهب ويعرض عليه الفكرة، فطلب الأخيرُ من هيئة المكتب، المجتمعين فى تلك اللحظة، والمكوَّنةِ من جمال، وصفوت الشريف، وأحمد عز، وزكريا عزمى، ومفيد شهاب، وعلىِّ الدين هلال- طلب النقاشَ عبر «الكول كونفرانس»، فبدأ بالفعل حوارًا معه، امتدَّ لحوالَى 20 دقيقة، وخرج بعدها، ليبلغنى أنَّ هيئة المكتب رفضت الفكرة، لأنهم رأوا أنهم بذلك يعطونهم اعترافًا «قالها بالإنجليزية»، وأنَّه سيعطيهم حجمًا أكبر من حجمهم. أنهيتُ المناقشة معه، لكن قبل أن أغادر، عائدا إلى مكتبى، كان لى تعليقُ واحدٌ أنَّ هذا خطأ كبير.

عدتُ إلى مكتبى، لأبلغ زملائى بالتوقف عن الاتصال بممثلى جماعات المعارضة، وذكرتُ لهم الأسباب، التى استند إليها مَن اتخذ القرار، بعدم السماح لهؤلاء الشباب بالظهور فى التليفزيون، دون أن أسمِّى لهم منْ هم الذين رفضوا، غير أنى على يقين، لذكائهم، فى معرفتهم مَن يملك مثل هذا القرار.

هذا الموقف أكَّد لى مرة أخرى ذلك الأسلوب، الذى اتَّسم بالقدر الأكبر من الغباء المعتاد للنظام فى مصر، فى إدارة الأزمات، وهو الانتقادُ الذى ذكرته دائما لمختلف المستويات السياسية والأمنية بشكل واضح، وفى بعض الأحيان بشكل غاضب، فقد كنتُ أرى أنَّ النظام أدمن هذا الغباء فى التعامل مع الأزمات، بل إنه خلقَ بنفسِه لنفسِه أزماتٍ، نتيجة أسلوب الإدارة. وفى مراتٍ عدة، خلقَ أعداءً من الفراغ، وحوَّل حلفاءَ إلى أعداء له، نتيجةَ قِصر النظر، الذى تمكَّن من كثير من اللاعبين الأساسيين فى ملعب السياسة والأمن داخل النظام، وفى الوقت نفسه، خلَقَ وحوشًا، ظنَّ أنَّها ستكون أسلحته فى مواجهة معارضيه، فاستحالتْ تلك الوحوش عبئا وضررًا عليهم، بل تسببتْ فى خسارة العديد من الحلفاء، وتحويل عدد آخر إلى معسكر الأعداء.

وقد كنتُ شاهدًا على العديد من هذه المواقف، ومن الأمثلة الدالّة على ذلك، أن اثنين ممن يعتبرون من قادة المعارضة، كلاهما كان عضوًا فى لجنة السياسات، التى كان يرأسها جمال مبارك، أحدهما، وعدوه أنْ يتولّى منصبًا إعلاميًّا رفيعا، ولم يفعلوا، فانقلب عليهم، والآخر، وجد زميله الباهت، مقارنة به، يتولّى مناصبَ قياديةً فى الحزب، بينما ظلَّ هو مكانه، حيث إنّ جمال مبارك كان حريصا على ألا يضع بجانبه من لا يرتاح إليه، أو يظنّ أنه سيخطف منه الأضواء، وكان صاحبنا هذا لامعًا فى الحديث بلغات متعددة، ولديه كاريزما ومقبول الشكل كثيرا، وهكذا خرج من الحزب، وتحول معارضا.

بدأنا البحث عن بديل لفكرة حضور الشباب المعارض، التى رفضها مكتب الحزب الوطنى، بقيادة جمال مبارك، وكانت قناعتى أن الأمور تتجه إلى التعقيد، وأن إدراك القائمين على إدارة الأزمة، لَحقيقة أبعادها أقلُّ كثيرا من حقيقتها، وأنهم يراهنون على عدة عناصر، منها الاقتناع بتلك القوة الرادعة والمسيطرة لجهاز الأمن، بقيادة وزير الداخلية حبيب العادلى، الذى نقل دائما الإحساس بالثقة إلى جميع المستويات فى الدولة، وعلى رأسها الرئيس مبارك نفسه، وبدا هذا واضحا أثناء الاحتفال الأخير بعيد الشرطة، وكان العادلى حريصاً على أن يترك المعلوماتِ مبهمةً حول العدد الفعليّ لقوات الأمن المركزى، المكلَّفة بالحماية ومكافحة الشغب، وقد تركَ للناس إعمال خيالهم، حتى إنَّ البعض قدَّرها بحوالَى مليون ونصف المليون، فى حين كشفتْ الحقائق فيما بعد، أنَّ عددهم لم يتجاوز 175 ألف جنديٍّ، ولكنْ أن يعيش الناس فى أوهام الأرقام الكبيرة للأمن، هو عاملُ ردعٍ وتخويفٍ.

العامل الثانى، الذى راهن عليه مديرو الأزمة، هو التجارب السابقة لتلك الجماعات المعارضة، من مظاهرات وإضرابات، لم تسفر إلا عن أخبار صحفية وتليفزيونية، وإنشاء جماعاتٍ جديدةٍ، تحمل اسم الحدثِ، أو تاريخَه، وقد كانتْ قناعتهم، وهذا ما ظهر من خلال مناقشات وزير الإعلام أنس الفقى، معى أكثر من مرة، أن هذه الأزمة يمكن أن تكون مناسِبةً، لكشف هذه الجماعات، معرفة قوتهم وحجمهم الحقيقيين، لينكشفوا أمام الناس، ويواجهوا أنفسهم. ويبدو أن هذا، كان هو القناعةَ لدى كلِّ هؤلاء، وقد نقلوا تلك القناعة إلى الرئيس مبارك شخصياً، وهذا ما لمستُه من طبيعة الاتصالات، التى كانت تجرى أمامى فى مكتب وزير الإعلام، مع المستويات القيادية المختلفة فى البلد.

العامل الثالث، الذى كان ساكنًا نفوسَهم دون أن ينطقوا به، هو ذلك الإحساس، بل تلك القناعة بأنَّ المصريين لن يثوروا، وأنهم بطبيعتهم يرضون بما قسمه الله لهم، بل وصل تقدير البعض، وهم داخل الدائرة الضيقة للحكم، أن قال لى أحدهم، منتقدًا أسلوب إدارة الدولة، رغم وجوده داخلها فى تلك الفترة، قال: إنهم يتعاملون مع الشعب باعتباره جثةً هامدةً لن تحرك ساكناً، وهذا ما أمَّن عليه عددٌ آخر من القريبين من مركز صنع القرار وإدارة الأزمة.

25 يناير

بدأ اليوم هادئاً، الأجواء يبدو وكأنَّ حدثًا ما فى الطريق، كان لدى أنس الفقى، وزير الإعلام، قدرٌ من الثقة فى أن اليوم سوف يمرُّ كسابقه من الأيام، التى شهدتْ مثل هذه الاعتصامات والمظاهرات، وهذه الثقة فيما يبدو، انتقلت إليه من وزير الداخلية حبيب العادلى، الذى كان على اتصال مستمرٍّ به، خلال الفترة الأخيرة، وكان من بين الأفكار التى طُرحَتْ يومها، أنَّ هذه المظاهرات مناسبة، لإظهار القوة الحقيقية للمعارضة فى الشارع، فقد كان الحديث سواء عن 6 أبريل، أو كفاية، أو غيرها من حركات المعارضة، كالحديث عن مجهولٍ، لا يُعرف على وجه التحديد حدود قوته الحقيقية، أو قدرته على التأثير، كذلك فإنَّ حضور أو عدم حضور الإخوان المسلمين فى تظاهرات اليوم، سوف يكون دليلاً على حجمهم الحقيقى فى حال المشاركة، وعن حجم الآخرين الحقيقى فى حال عدم المشاركة.

أحداث اليوم أعطتْ انطباعًا، بأنَّ الأمور تسير مع الدولة وليس ضدها، وبدا الأمر وكأن الأمور تتعاون مع الدولة ضد المظاهرات، فقد بدأ اليوم باشتباكات عنيفة ولكن فى الدولة اللبنانية، وهكذا، فإنَّ الإعلام العربى كلَّه، والفضائيات العربية كلها، قد وضعتْ الموضوع اللبنانى فى مقدمة نشراتها، حتى إن أخبار المظاهرات المصرية بدت فاترة فى بداية اليوم، ولم تأخذ نصيبها من الاهتمام، بل كانت الخبر الثانى أو الثالث، أو حتى الرابع فى العديد من النشرات والتغطيّات الإخبارية فى ذلك اليوم فى مختلف القنوات العربية.

اتصل بى الوزير أنس الفقى، وزير الإعلام فى ذلك الصباح على المكتب، وقال لى: يبدو أن لبنان هى الأخرى تلعب لصالح النظام، وبدا سعيدًا، لأننا الآن، لدينا فرصة مناسبة، لكى نضع لبنان الخبر الأول فى التغطيَّات الإخبارية المختلفة لنا، خاصة أن القنوات العربية المختلفة كالجزيرة، والعربية قد بدأت نشراتها وفتحت هواءها للخبر اللبنانى، لذلك كان خبر لبنان، هو الأول فى نشرات التليفزيون المصرى، بينما كان خبر المظاهرات هو الثانى، بالإشارة إلى أنها تجمُّع للقوى السياسية المختلفة، التى ترفع مجموعة من الشعارات، كإصلاح الاقتصاد وإصلاح هيكل الأجور، كانت هذه هى الصيغة التى تمَّ الاتفاق عليها فى إطار التغطية الخاصة للمظاهرات، وبالفعل، خرجتْ مجموعة من الكاميرات، لتصوير التظاهرات فى أماكن مختلفة فى شوارع القاهرة، لكن هذا الوضع لم يستمر طويلاً، حيث هدأت الأمور فى لبنان، بينما ازدادت اشتعالاً فى مصر.

مع مرور ساعات النهار، وتطوُّر الأحداث، بدأت الحالة المصرية تفرض نفسها على وسائل الإعلام المختلفة بما فيها، التليفزيون المصرى فى حدود المتاح وبدرجات متفاوتة، وبدا أن المظاهراتِ التى تحركت فى شوارع مصر المختلفة، قد استفادت من التجارب والدورات التى مر بها عدد من هؤلاء الشباب.

حتى بعد ظهر ذلك اليوم، ظلَّ إحساس الارتياح مسيطرًا على مديرى الأزمة، لمستُ ذلك من خلال الاتصالات الهاتفية التى جرت أمامى، وبدا لى فيها قدر الثقة بين المتحدثين، سواء من وزير الإعلام أنس الفقى، أو وزير الداخلية حبيب العادلى، الذى كان حاضراً دائماً على الهاتف الساخن مع الفقى، أو على الطرف الآخر جمال مبارك، و زكريا عزمى، رئيس ديوان رئيس الجمهورية، فى مقر الرئاسة، وبين وقتٍ وآخر، كان يتم إبلاغ الرئيس بملخص عن التطورات عبر الهاتف، وقد لاحظتُ دائما أن الصورة التى كانت تُنقل للرئيس، بها قدرٌ كبيرٌ من الطمأنة، وأنَّ الأمور تحت السيطرة، وبدا وكأنَّ هناك حرصًا على عدم إقحامه فى التفاصيل، وبدا أيضا، على الطرف الآخر، أنه لا يمانع فى ذلك، وكانت الإحالة منه دائماً، إلى جمال ليتصرف، أو إلى حبيب العادلى الذى كان مطمَئنا لإدارته للأمور.

وحسبما علمتُ من أنس الفقى، وزير الإعلام، أن اجتماعا، لتقدير الموقف، كان قد جرى يوم السبت السابق للأحداث، حضره مبارك، ورئيس الوزراء أحمد نظيف، ووزير الدفاع، ووزير الإعلام، ووزير الداخلية، ورئيس جهاز المخابرات، وقد طُرح فيه الموقف المتوقع يوم 25، وقد بدا أيضاً من خلال الاجتماع، الثقة التى أبداها وزير الداخلية والسيطرة على الموقف، وكذلك التأكيد على التعامل السلمى مع المظاهرات حتى تمر بسلام، كذلك تم استعراض الإجراءات التى سيتم اتخاذها ذلك اليوم فيما يتعلق بالاتصالات، والتعامل مع المتظاهرين. كلُّ هذه الأمور، كان قد تحدَّث معى فيها أنس الفقى، وزير الإعلام، قبل يوم 25 يناير، وفى أثنائه، فى ذلك الوقت.

ومن الأمور الملفتة للنظر، والتى كان من الممكن، فى وقت آخر، أن تبدو طريفة، إلا أنها لم تكن كذلك، ففى ذلك اليوم، 25 يناير، كانت وزارة الداخلية قد بدأت حملة إعلانية، حاولتْ بها أن تحسَّن صورتها، وتقرب بينها وبين الجماهير. فى هذا المساء أيضا، كان مُقررًا إذاعةُ الحوار السنوى الذى اعتاد أن يجريه وزير الداخلية مع الكاتب الصحفى مفيد فوزى، وهو الحوار الذى امتد ساعتين كعادته، ولم يكن الظرف مواتيًا، كما اعتقدت فى ذلك الوقت، فقد كان الشارع مليئاً بالمظاهرات، وكانت هناك حالة من الاحتجاج والاحتقان، فسألتُ وقتها وزير الإعلام، عن مدى إمكانية عدم إذاعة هذا اللقاء، واقترحت عدم إذاعته فى هذه الظروف، خاصة أنه سوف يزيد الأمور سوءًا، إلا أنه رأى أنه حوار لوزير الداخلية، فى يوم الاحتفال بعيد الشرطة، والحوار كان قد تم تسجيله بالفعل، وبالتالى يتوجَّب إذاعته، وخرج وزير الداخلية - فى تلك الليلة، فى حوارٍ سُجِّل قبلها بيومين - بمجموعة من التصريحات، لم تكن فى توقيتها المناسب على الإطلاق حتى لو كانت مسجلة من قبل.

استمرت متابعة ما يحدث فى شوارع القاهرة ومدن مصرية مختلفة. وبدا أن المظاهرات هذه المرة مختلفة عن سابقاتها، وعندما نجحتْ المظاهرات فى الاستمرار إلى ما بعد الثالثة مساء، شعر الإخوان بأنهم سيخسرون إن لم يتحركوا ويشاركوا، وإلا سيظهرون بمظهر المتخاذل، وسوف يخسرون ما يشيعونه دائماً، من أنهم القوة الحقيقية لحركات الاحتجاج، فصدرتْ التعليمات لأعضاء الجماعة، من قيادتها، بالنزول إلى الشارع. وقتها اتصل بى أحد المراسلين، وذكر: أن شعارات جديدة بدأت تتردد بين المتظاهرين، هذه الشعارات والهتافات حملت طابعاً دينياً، ولم تكن شعارات الإخوان المسلمين بشكل مباشر، كما لم يرفع أعضاء الجماعة ما يدل عليهم كجماعة الإخوان، ولكن الشعارات والهتافات حملت مضامين دينية إسلامية، ثم كانت الدعوة لإقامة صلاة العصر فى الميدان.

التقيت أنس الفقى وزير الإعلام عدة مرات خلال اليوم، ونقلت إليه ما جاءنى من المراسلين فى الشارع، عن تدهور الأحوال فى السويس، وازدياد الاصطدامات، ووقوع ضحايا من المتظاهرين وقوات الأمن، وعن تزايد المظاهرات فى الإسكندرية، ومشاركة رموز سياسية معارضة فى المظاهرات على غير المتوقع، فوجدت أن لديه معلوماتٍ كانت تصله من خلال التواصل والاتصال المستمر بوزير الداخلية.

قبل المغرب بقليل، قام أنس الفقى بالاتصال ببعض الشخصيات السياسية المعارضة، التى شاركت فى المظاهرات، من أجل حثِّها على عدم المشاركة، وعلى إيجاد وسيلة للتفاهم معهم، وبالفعل وصل إلى مكتبه اثنان منهم، محمد مصطفى شردى، النائب السابق لحزب الوفد عن دائرة بورسعيد، والذى انسحب من الانتخابات البرلمانية الأخيرة مع حزبه فى المرحلة الثانية، ورامى لكح رجل الأعمال، الذى عاد إلى مصر بعد سنوات من الهروب خارجها، وذلك بعد التوصُّل إلى تسويةٍ لديونه للبنوك المصرية، ثم انضم لحزب الوفد، وشارك فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ولم ينجح هو الآخر، بفضل إدارة أحمد عز للانتخابات.

واستمر اللقاء بين الفقى وبينهما لمدة تجاوزت الساعتين، وتحدَّث معهما فيها عن مطالبهما، وانتقد مشاركتهما فى مثل هذه المظاهرات بشكل لطيف، قائلا: إنهما أكبر من المشاركة فى مثل هذه المظاهرات، وأكد أن هناك خطوات سوف تُتخذ لإصلاح الأوضاع، خاصة فيما يتعلق بالأحكام الصادرة من القضاء المصرى، المقدمة فى صحة عضوية أعضاء مجلس الشعب، وكذلك أهمية فتح باب الحوار معهم ومع رموز المعارضة الشرعية فى المستقبل.

وكان اللقاء وديًّا على عكس ما ادَّعى البعض بعد ذلك بأشهر، حيث بدا منهم التجاوب على ما طرحه الفقى، وذلك كما علمتُ أثناء تقديم الوزير تقريرًا للرئيس، عبر الهاتف، بما تمَّ، فضلا عن اتصالات أخرى للوزير مع بقية القائمين على إدارة الأزمة فى ذلك الوقت.

مع استمرار المظاهرات، بدت حالة التوتر أكثر حضورًا لدى القائمين على إدارة الأزمة، والاتصالات باتت أكثر كثافة، إلا أنَّ ذلك لم يمنع استمرار الإحساس بالثقة فى السيطرة على الأمور لدى كل الأطراف، استنادًا لما يؤكده لهم حبيب العادلى وزير الداخلية.

مع حلول المساء واستمرار المظاهرات فى الميدان، خرجت وزارة الداخلية ببيان، هو الأول، منذ بدء المظاهرات التى بدأت منذ ذلك الصباح، وكالعادة جاء البيان، وهو يحمل فى طياته ما اعتاد أن تحمله مثل هذه البيانات، حيث لم يتَّسم البيان بأى قدر من الذكاء السياسى، وتعامل بشكل تقليدى، كما لو أنَّه كان يتعامل مع مظاهرة صغيرة كسابقاتها.

انتهى بيان وزارة الداخلية فى تلك الليلة، الذى كان خطأه الأكبر أن نسبَ الفضل كله، أو نسب المظاهرات كلها، وحضورها إلى جماعة الإخوان المسلمين، وتجاهل تماما المعارضة التقليدية التى كان بعضها موجودًا، وليس ذلك فقط، بل الأهم أنه تجاهل أولئك الشباب، الذين شاركوا فى هذه المظاهرات، وتجاهل أيضا مشاركة المصريين العاديين فيها لأول مرة بشكل تلقائى، وتعبيراً عن حالة الغضب والإحباط التى سادت لديهم، وكذلك الإحساس بعدم الجدوى. تجاهل البيان كل ذلك، وأعطى الزخم كله، والفضل كله للإخوان المسلمين. كان هذا هو أحد أهم الأسباب التى دعت المواطنين، أو الذين يتابعون فى تلك الفترة، إلى عدم التعاطف، أو تصديق ما ذكره البيان، لأن الذين تابعوا من خلال وسائل الإعلام المختلفة، وجدوا فى شوارع القاهرة والمدن المصرية الأخرى، متظاهرين جددا، وليس كما ادعى البيان-كونهم الإخوان المسلمين.

على الأرض، التحمت القوى السياسية المشاركة مع مَن شاركوا من المواطنين العاديين. فكانت هناك الأحزاب والحركات السياسية والاحتجاجية ومنظمات المجتمع المدنى، وأصحاب الأفكار والتوجهات المختلفة، وبجانب هؤلاء آلاف من طلبة الجامعات، الذين عرفوا النزول إلى المظاهرات للمرة الأولى، معلنين رفضهم تدنى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، واكتملت الصورة بتوافد رجال الأعمال وربات البيوت، حاملين المأكولات السريعة والبطاطين وكراتين المياه المعدنية، لمساعدة المحتاجين وإمدادهم بالغذاء.

البداية الحقيقية كانت فى الثانية ظهرا بميدان التحرير، عندما تجمع المحتجون القادمون من منطقة وسط القاهرة أمام دار القضاء العالى، ونقابتى المحامين والصحفيين، والقادمون من شبرا، ودار السلام، وبولاق الدكرور، وهتفوا «الشعب يريد إسقاط النظام» و«يسقط يسقط كل فاسد» و«أهلا أهلا بالتغيير» و«لا وألف لا للظالمين» و«يا رغيف فينك فينك البطالة بينا وبينك».

لماذا شارك من شارك من المواطنين العاديين؟ هذا هو السؤال الذى لم يحاول واحدٌ من النظام الذى سقط أن يتوقف عنده، ويلحظ أيًّا من المقدمات التى أشرت إليها من قبل، ففى شوارع متعددة من مصر، ليس فقط ميدان التحرير تجمع آلاف المواطنين المصريين، شبابًا وفتيانًا، وشيوخًا، وأسرًا كاملة «الزوجين وأطفالهما»، خرجوا جميعًا، للمشاركة فى «يوم الغضب»، دون أن يجمعهم الانتماء لأى تيارات سياسية أو تنظيمات.

مع دقات الساعة السابعة والنصف مساء، أى بعد ٥ ساعات من التظاهر كانت ملامح مطالب المتظاهرين قد بدأت تتبلور عندما اجتمع بعض المشاركين من المتظاهرين، ووضعوا أنفسهم فى موقع القيادة بمقر حزب الغد «جبهة أيمن نور»، واتفقوا على مجموعة من المطالب أعلنها بعد انتهاء الاجتماع الدكتور أسامة الغزالى حرب، رئيس حزب الجبهة المعارض، وكان عضوًا قياديًّا من قبل فى الحزب الوطنى ولجنة السياسات، التى رأسها جمال مبارك، ثم تحول إلى المعارضة، وجاءت فى ٤ نقاط: الأولى: مطالبة الرئيس مبارك بعدم الترشح لفترة رئاسية جديدة، وعدم ترشح نجله جمال مبارك، الأمين المساعد للحزب الوطنى الديمقراطى، وإقالة حكومة الدكتور نظيف، وحل مجلسى الشعب والشورى، والمجالس المحلية، وتعيين حكومة إنقاذ وطنى لمدة ٦ أشهر، يتم خلالها إقرار دستور جديد لمصر، وآخر قرارات اجتماع القوى السياسية هو استمرار الاعتصامات والاحتجاجات فى مختلف المحافظات.

وبعد نداء إذاعة مترو الأنفاق عن وجود آخر قطار متجه لمحطات شبرا والجيزة، أغلق عمال المترو مداخل ومخارج محطة أنور السادات فى ميدان التحرير، وبعدها بدقائق وبعد الإنذارات، هاجمت قوات الأمن المتظاهرين وأطلقت نحو ٥٠ قنبلة مسيلة للدموع فى اتجاه حديقة الميدان وأمام عمر مكرم، واستطاعوا تفريق المتظاهرين فى أقل من ١٥ دقيقة، فلجأ المحتجون إلى الكر والفر فى الشوارع الجانبية للميدان، وتحركوا فرادى، وأصيب العشرات بالاختناق بسبب الدخان الكثيف للقنابل.

وتم فض المظاهرات فجر الأربعاء، وقد حمل الهواء بقايا رائحة الغازات، وسار وزير الداخلية بسيارته وسط ميدان التحرير بعد إخلائه، واتضحت طلبات المتظاهرين أمام صناع القرار، وانتهى اليوم، وبدأ يوم جديد، وكان السؤال الكبير: هل فهم الدرس مَنْ عليه أن يفهم؟

المصدر: المصرى اليوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق