مذكرات نائب المرشد السابق.. د.محمد حبيب يكشف أسرار الإخوان من الداخل (2)
فتح نائب المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين الدكتور محمد حبيب، كنز أسراره، وروى جزءا من تاريخ الجماعة، فى ما بعد التأسيس الثانى لها، متحدثا عن أسباب اختيار مهدى عاكف مسؤولا للإخوان للإشراف على إدارة المركز الإسلامى فى ألمانيا بدلا منه، كما تحدث عن دور عبد المنعم أبو الفتوح فى الجماعة أوائل الثمانينيات، ودوره عندما جاب محافظات الصعيد، بنى سويف والفيوم والمنيا وأسيوط وأسوان، للقاء الإخوان على مستوى القيادات الوسيطة وأفراد الصف. فى هذه الحلقة يستأنف الدكتور محمد حبيب، ذكرياته مع الإخوان وجزء مهم من تاريخ مصر.
حبيب: المرشد استدعانى وقال: نحن نحتاجك فى «مكتب الإرشاد».. لما عُرف عنك من استقلالية فى الرأى 1:لقاء الأستاذ عمر فى يوليو من عام 1985 اتصل بى هاتفيا الأخ الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وقال لى إن الوالد (يقصد الأستاذ عمر التلمسانى المرشد العام) يريد أن يراك غدا فى منزله بحى غمرة الساعة الرابعة عصرا. فى صبيحة اليوم التالى كانت لدىّ محاضرة للأخوات فى مدرسة «دار حراء» بأسيوط التابعة للجمعية الإسلامية للدعوة وتنمية المجتمع، انتهيت منها العاشرة صباحا وانطلقت بعدها ومعى زوجتى بسيارتى الخاصة إلى القاهرة، لكن لظروف حادثة سيارة فى الطريق تأخرت عن موعدى نحو ساعتين ونصف الساعة.. طرقت باب شقة الأستاذ عمر وفتحتْ لى زوجته، ودخلت حيث يجلس الأستاذ عمر فى بلكونة مغلقة بالزجاج على دكة وبجواره هاتفه.. سلّمت عليه وقبّلت يده وجلست على الدكة المقابلة له، واعتذرت عن تأخرى عليه، فقال: لا عليك.. أنا جالس فى انتظارك منذ الساعة الرابعة حسب الموعد ولم أحرِّك ساكنا. كانت الشقة من البيوت القديمة، ومن حيث أثاثها غاية فى التواضع، حتى إن الأرض كانت مفروشة بحصير بلاستيك، رغم ما عُرف عن الأستاذ عمر بأنه سليل أسرة عريقة. شرح الأستاذ عمر الهدف من طلبه رؤيتى.. قال: نحن فى مكتب الإرشاد محتاجون إلى أن تكون معنا وقد سألت عبد المنعم أن يرشح لى واحدا معروفا عنه استقلالية الرأى فرشَّحك لى.. فما رأيك؟ قلت: يا أستاذ عمر.. صعب أن يُترك الأمر لى على هذا النحو، لو أنكم أصدرتم تكليفا لى فأنا إن شاء الله مستعد.. قال: نحن لا نكلف أحدا.. أنت تعلم أن هذا الأمر له عواقبه وآثاره وتداعياته، ونريد أن يكون قرارك نابعا من نفسك حتى تتحمل بالكامل مسؤولية ما أنت مُقبِل عليه.. إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حينما أراد أن يكلف عمر -رضى الله عنه- بالذهاب للتفاوض مع قريش أيام الحديبية، اعتذر عمر وعلل ذلك بالعداوة الشديدة معهم وما يمكن أن يؤدى إليه ذلك من قتله، خصوصا مع عدم وجود عزوة تمنعهم عنه، واقترح على النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يبعث عثمان -رضى الله عنه- وقد صدق حدس عمر -رضى الله عنه- وباقى القصة معروفة.. ثم قال الأستاذ عمر، خذ وقتك فى التفكير، يمكن أن تأخذ أياما.. لا تكن فى عجلة من أمرك.. قلت: إن المسألة بالنسبة إلىّ محسومة، وما وضعت فى حسبانى يوما أن الطريق سهل ومريح.. أنا أعلم تبعاته.. والأمر لا يحتاج إلى تفكير.. قال: موافق أنت إذن؟ قلت نعم.. قال: هات يدك.. وبايعت على ذلك.. ثم قال: أنا أعلم أنك شديد على إخوانك، فانزعجت، وقلت: ما الذى تقصده فضيلتك بالشدة؟ قال: إنك تتعامل مع إخوانك بالمسطرة والمثلث والبرْجل (كناية عن الانضباط الكامل)، وليس الإخوان كذلك.. الإخوان بشر يصيبون ويخطئون، وسوف ترى من بعض الإخوان ما لا تراه من غيرهم.. والمطلوب منك أن تصبر عليهم.. ثم حكى لى -رحمه الله تعالى- بعضا مما يلاقيه على يد بعض الإخوان.. وقد تأكد لى ذلك فى ما بعد.. ثم قال: أريد أن تنقل حياتك إلى القاهرة، أريد أن تكون إلى جانبى.. أحيانا أحتاج إلى أن أستشير أو آخذ قرارا عاجلا ووجودك فى أسيوط لا يحقق هذا الأمر.. قلت: أنا أستعد هذه الأيام للتقدم بأوراق الترقية لدرجة أستاذ، وبعدها سوف أكون جاهزا للانتقال إلى القاهرة إن شاء الله. قال: لا بأس.. أرجو لك التوفيق.. قلت: كذلك أنا ذاهب إلى الحج فى الأيام القليلة القادمة ولن أكون موجودا هنا.. قال: ادْعُ الله لنا. وعلمت فى ما بعد أن ثلاثة آخرين تم اختيارهم فى هذا التوقيت كأعضاء فى مكتب الإرشاد هم الأساتذة: المستشار محمد المأمون الهضيبى، والدكتور عبد الستار فتح الله سعيد، والدكتور سالم نجم.. وقد حكى لى الأستاذ المأمون الهضيبى -فى ما بعد- أنه اشترط على الأستاذ عمر شرطًا حتى يقبل، وهو أن يُحاط علمًا بكل ما يجرى، وأنه لا يريد أن يأتى ذلك اليوم الذى يقول فيه: أنا لم أكن أعلم.. فقال الأستاذ عمر: لك ذلك.. فى ختام حديثه معى وقبل أن أنطلق قال الأستاذ عمر: أنا لا أفهم فى الأمور المالية.. بالتأكيد تفوتك ساعات وقت إضافى أو ما شابه، أرجو أن تتحدث إلى الأخ جابر رزق فى ذلك.. قلت: هى مستورة والحمد لله.. ولا يوجد فاقد فى ذلك، قال: على الأقل ثمن تذاكر السفر من أسيوط إلى القاهرة.. قلت: المسألة بسيطة ولا تحتاج إلى ذلك. 2:هكذا كان الأستاذ عمر ناقش التلمسانى معنا مسألة الحزب .. ولما وجدنا مختلفين قال: اذهبوا إلى المنيل وناقشوا موضوع الحزب حتى تنتهوا إلى رأى.. لكنه توفى قبل أن يكمل هذه الخطوة كان الأستاذ عمر التلمسانى المرشد العام للإخوان المسلمين، عفَّ اللسان، حَييًّا، مهذبا، خَلوقًا، ولم يكن يصدر عنه ما يسىء إلى أحد، حتى إنه، وهو يصف واحدا من المستشارين الكبار الذين طالتهم مذبحة القضاة أيام عبد الناصر، قال: كنت متصورا أن فلانا خطيب مصقع، لكنى وجدته «مش ولا بد».. وقد لاحظت أنه -رحمه الله- كان يترفع عن وصف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما وصفه به المشركون مما جاء فى كتاب ربنا جل وعلا، فكان يقول: وقالوا.. وقالوا.. وذلك تأدبا منه مع الحبيب المصطفى.. فى جلسات مكتب الإرشاد التى كانت تضمنا، كان -رحمه الله- يعرض علينا فى البداية جدول الأعمال، ويطلب منا الرأى فيه، بل يطلب إن كانت هناك إضافة أو حذف أو تعديل.. فإذا استقر الوضع على بنود معينة، بدأ يعرض البند الأول، فيقوم بشرح كل ما يتصل به بحيادية كاملة، ودون أن يبدى رأيا.. ثم يطلب منا -واحدا بعد الآخر- أن ندلى فيه بدلونا، فإذا أبدى الأول رأيه وطرح وجهة نظره، لم يعلِّق أو يُعقِّب عليه بتلك العبارات التى تجرى على ألسنتنا فى العادة، من مثل: فتح الله عليك.. أو ما هذا الذى تقول؟ كان كمن يضع قناعا على وجهه، فلا ترى إن كان يستحسن ما يسمع أو يستقبحه، بل كان يمنع الآخرين من مقاطعة من يتحدث أو يعلق.. وهكذا، ثم يعطى الكلمة للثانى فالثالث والرابع.. إلخ، فإذا وجد إجماعا أو اتجاها عاما، أبرمه وقضاه، وقال: إذن.. هذا هو الرأى.. وكنا نستدرك عليه، فيقول: لكننا لم نسمع رأيك أنت يا أستاذ عمر؟ فيقول -رحمه الله: كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول لأبى بكر وعمر -رضى الله عنهما: لو اجتمعتما على أمر ما خالفتكما. وفى يوم من الأيام طرح علينا أن يتولى الأستاذ صلاح شادى -رحمه الله- مسؤولية نشر الدعوة، وكان يتولاها حينذاك الأخ المفضال أ.د.عبد الستار فتح الله سعيد، وهو مَن هو، ويبدو والله أعلم أن الأستاذ عمر كان يدّخر الأخير لعمل آخر.. فاعترض الجميع على مجرد الفكرة دون مناقشة. قال الأستاذ عمر: حنانيكم.. دعونا نسمع واحدا واحدا، ونناقش الأمر فى هدوء.. كنت أول المتحدثين.. شرحت وجهة نظرى، وقلت: إن مسؤول نشر الدعوة ليس شرطا أن يكون من الخطباء أو المحاضرين.. الأمر يحتاج إلى قدرة على فهم واستيعاب قضية نشر الدعوة، وهى من أهمّ وأجلّ المهام الرئيسية للجماعة.. يحتاج أيضا إلى دراية بخريطة المجتمع المصرى بكل فئاته وشرائحه، حيث إن ما يناسب هذه الفئة قد لا يكون صالحًا للفئة الأخرى، وهكذا.. يحتاج كذلك إلى قدرة على التخطيط، ومعرفة طاقات وإمكانات الإخوة، ثم قدرة على تحريك هؤلاء الإخوان.. ما إن وصلت إلى هذا الحد حتى وجدت رفضا ومقاطعة لما أقول.. وكأنهم فهموا أنى أريد أن أستلب المسؤولية من الدكتور عبد الستار ليتم إسنادها إلى الأستاذ صلاح.. وإذا بالأستاذ عمر يقول: دعوه.. فإنه والله لا يقول إلا الحق.. ودعانى لأكمل الحديث.. فقلت: أنا لا أتحدث عن أشخاص، فالكل إخوة كرام وفضلاء، وعلى عينى ورأسى.. أنا أتحدث فقط عن القواعد الأساسية لإسناد هذه المهمة أو تلك.. ودورنا هو أن نبحث عن انطباق هذه القواعد على أىٍّ من الأخوين، فإن وافقت أخانا الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد فبها ونعمت، وإن وافقت أخانا الأستاذ صلاح شادى فهذا من تمام الرضا، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى. سار المكتب التنفيذى (مكتب مصر) جنبا إلى جنب مع مكتب الإرشاد، غير أن كثيرين من الإخوان كانوا يلجؤون إلى الأستاذ عمر -المرشد العام- لحل المشكلات واستطلاع الرأى فى كثير من الأمور، وهو ما كان يُعاتب فيه الدكتور أحمد الملط الأستاذ عمر، إذ كان الدكتور أحمد الملط هو المسؤول فعليا عن ذلك، صحيح أن الإخوان فى مصر جزء من التجمع الإخوانى على المستوى العالمى، بل هم جزء رئيسى منه، وبالتالى لا غضاضة فى أن يكونوا موضع اهتمام المرشد العام، وكان الأستاذ عمر يقول: «ماذا أفعل يا دكتور أحمد؟ هم يأتوننى، ويُلحُّون، حاولت ردهم مرات، لكنهم كانوا يصرون». وإذا كان هذا يكشف طبيعة مكانة ومنزلة المرشد فى قلوب الإخوان، وأن من حقهم أن يتواصلوا مع مرشدهم وأن يبثوه كوامن أشجانهم، وأن من حقه كذلك أن يستمع إليهم، لكن فى الوقت ذاته يجب أن لا يغفلوا أن هناك مسؤولا مباشرا عنهم. فى الأشهر الأخيرة، مرض الأستاذ عمر ونُقل إلى المستشفى.. وكنا نجتمع به هناك.. فى البداية كان متوقد الذهن، واعيا لما يقول وما يُقال، وكانت له اقتراحات مفيدة ومثمرة للغاية.. ناقش معنا مسألة الحزب، وكان له فيها رأى.. ولما وجدنا مختلفين حول هذا الأمر، قال: «اذهبوا إلى المنيل -الذى أصبح فى ما بعد مقر المركز العام للإخوان المسلمين- وبيِّتوا فيه ليلةً معًا، وناقشوا موضوع الحزب إلى أن تنتهوا فيه إلى رأى». ومن أسف أن الأستاذ عمر توفى قبل أن يكمل هذه الخطوة العملاقة فى تاريخ الجماعة.
المصدر: التحرير
فتح نائب المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين الدكتور محمد حبيب، كنز أسراره، وروى جزءا من تاريخ الجماعة، فى ما بعد التأسيس الثانى لها، متحدثا عن أسباب اختيار مهدى عاكف مسؤولا للإخوان للإشراف على إدارة المركز الإسلامى فى ألمانيا بدلا منه، كما تحدث عن دور عبد المنعم أبو الفتوح فى الجماعة أوائل الثمانينيات، ودوره عندما جاب محافظات الصعيد، بنى سويف والفيوم والمنيا وأسيوط وأسوان، للقاء الإخوان على مستوى القيادات الوسيطة وأفراد الصف. فى هذه الحلقة يستأنف الدكتور محمد حبيب، ذكرياته مع الإخوان وجزء مهم من تاريخ مصر.
حبيب: المرشد استدعانى وقال: نحن نحتاجك فى «مكتب الإرشاد».. لما عُرف عنك من استقلالية فى الرأى 1:لقاء الأستاذ عمر فى يوليو من عام 1985 اتصل بى هاتفيا الأخ الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وقال لى إن الوالد (يقصد الأستاذ عمر التلمسانى المرشد العام) يريد أن يراك غدا فى منزله بحى غمرة الساعة الرابعة عصرا. فى صبيحة اليوم التالى كانت لدىّ محاضرة للأخوات فى مدرسة «دار حراء» بأسيوط التابعة للجمعية الإسلامية للدعوة وتنمية المجتمع، انتهيت منها العاشرة صباحا وانطلقت بعدها ومعى زوجتى بسيارتى الخاصة إلى القاهرة، لكن لظروف حادثة سيارة فى الطريق تأخرت عن موعدى نحو ساعتين ونصف الساعة.. طرقت باب شقة الأستاذ عمر وفتحتْ لى زوجته، ودخلت حيث يجلس الأستاذ عمر فى بلكونة مغلقة بالزجاج على دكة وبجواره هاتفه.. سلّمت عليه وقبّلت يده وجلست على الدكة المقابلة له، واعتذرت عن تأخرى عليه، فقال: لا عليك.. أنا جالس فى انتظارك منذ الساعة الرابعة حسب الموعد ولم أحرِّك ساكنا. كانت الشقة من البيوت القديمة، ومن حيث أثاثها غاية فى التواضع، حتى إن الأرض كانت مفروشة بحصير بلاستيك، رغم ما عُرف عن الأستاذ عمر بأنه سليل أسرة عريقة. شرح الأستاذ عمر الهدف من طلبه رؤيتى.. قال: نحن فى مكتب الإرشاد محتاجون إلى أن تكون معنا وقد سألت عبد المنعم أن يرشح لى واحدا معروفا عنه استقلالية الرأى فرشَّحك لى.. فما رأيك؟ قلت: يا أستاذ عمر.. صعب أن يُترك الأمر لى على هذا النحو، لو أنكم أصدرتم تكليفا لى فأنا إن شاء الله مستعد.. قال: نحن لا نكلف أحدا.. أنت تعلم أن هذا الأمر له عواقبه وآثاره وتداعياته، ونريد أن يكون قرارك نابعا من نفسك حتى تتحمل بالكامل مسؤولية ما أنت مُقبِل عليه.. إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حينما أراد أن يكلف عمر -رضى الله عنه- بالذهاب للتفاوض مع قريش أيام الحديبية، اعتذر عمر وعلل ذلك بالعداوة الشديدة معهم وما يمكن أن يؤدى إليه ذلك من قتله، خصوصا مع عدم وجود عزوة تمنعهم عنه، واقترح على النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يبعث عثمان -رضى الله عنه- وقد صدق حدس عمر -رضى الله عنه- وباقى القصة معروفة.. ثم قال الأستاذ عمر، خذ وقتك فى التفكير، يمكن أن تأخذ أياما.. لا تكن فى عجلة من أمرك.. قلت: إن المسألة بالنسبة إلىّ محسومة، وما وضعت فى حسبانى يوما أن الطريق سهل ومريح.. أنا أعلم تبعاته.. والأمر لا يحتاج إلى تفكير.. قال: موافق أنت إذن؟ قلت نعم.. قال: هات يدك.. وبايعت على ذلك.. ثم قال: أنا أعلم أنك شديد على إخوانك، فانزعجت، وقلت: ما الذى تقصده فضيلتك بالشدة؟ قال: إنك تتعامل مع إخوانك بالمسطرة والمثلث والبرْجل (كناية عن الانضباط الكامل)، وليس الإخوان كذلك.. الإخوان بشر يصيبون ويخطئون، وسوف ترى من بعض الإخوان ما لا تراه من غيرهم.. والمطلوب منك أن تصبر عليهم.. ثم حكى لى -رحمه الله تعالى- بعضا مما يلاقيه على يد بعض الإخوان.. وقد تأكد لى ذلك فى ما بعد.. ثم قال: أريد أن تنقل حياتك إلى القاهرة، أريد أن تكون إلى جانبى.. أحيانا أحتاج إلى أن أستشير أو آخذ قرارا عاجلا ووجودك فى أسيوط لا يحقق هذا الأمر.. قلت: أنا أستعد هذه الأيام للتقدم بأوراق الترقية لدرجة أستاذ، وبعدها سوف أكون جاهزا للانتقال إلى القاهرة إن شاء الله. قال: لا بأس.. أرجو لك التوفيق.. قلت: كذلك أنا ذاهب إلى الحج فى الأيام القليلة القادمة ولن أكون موجودا هنا.. قال: ادْعُ الله لنا. وعلمت فى ما بعد أن ثلاثة آخرين تم اختيارهم فى هذا التوقيت كأعضاء فى مكتب الإرشاد هم الأساتذة: المستشار محمد المأمون الهضيبى، والدكتور عبد الستار فتح الله سعيد، والدكتور سالم نجم.. وقد حكى لى الأستاذ المأمون الهضيبى -فى ما بعد- أنه اشترط على الأستاذ عمر شرطًا حتى يقبل، وهو أن يُحاط علمًا بكل ما يجرى، وأنه لا يريد أن يأتى ذلك اليوم الذى يقول فيه: أنا لم أكن أعلم.. فقال الأستاذ عمر: لك ذلك.. فى ختام حديثه معى وقبل أن أنطلق قال الأستاذ عمر: أنا لا أفهم فى الأمور المالية.. بالتأكيد تفوتك ساعات وقت إضافى أو ما شابه، أرجو أن تتحدث إلى الأخ جابر رزق فى ذلك.. قلت: هى مستورة والحمد لله.. ولا يوجد فاقد فى ذلك، قال: على الأقل ثمن تذاكر السفر من أسيوط إلى القاهرة.. قلت: المسألة بسيطة ولا تحتاج إلى ذلك. 2:هكذا كان الأستاذ عمر ناقش التلمسانى معنا مسألة الحزب .. ولما وجدنا مختلفين قال: اذهبوا إلى المنيل وناقشوا موضوع الحزب حتى تنتهوا إلى رأى.. لكنه توفى قبل أن يكمل هذه الخطوة كان الأستاذ عمر التلمسانى المرشد العام للإخوان المسلمين، عفَّ اللسان، حَييًّا، مهذبا، خَلوقًا، ولم يكن يصدر عنه ما يسىء إلى أحد، حتى إنه، وهو يصف واحدا من المستشارين الكبار الذين طالتهم مذبحة القضاة أيام عبد الناصر، قال: كنت متصورا أن فلانا خطيب مصقع، لكنى وجدته «مش ولا بد».. وقد لاحظت أنه -رحمه الله- كان يترفع عن وصف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما وصفه به المشركون مما جاء فى كتاب ربنا جل وعلا، فكان يقول: وقالوا.. وقالوا.. وذلك تأدبا منه مع الحبيب المصطفى.. فى جلسات مكتب الإرشاد التى كانت تضمنا، كان -رحمه الله- يعرض علينا فى البداية جدول الأعمال، ويطلب منا الرأى فيه، بل يطلب إن كانت هناك إضافة أو حذف أو تعديل.. فإذا استقر الوضع على بنود معينة، بدأ يعرض البند الأول، فيقوم بشرح كل ما يتصل به بحيادية كاملة، ودون أن يبدى رأيا.. ثم يطلب منا -واحدا بعد الآخر- أن ندلى فيه بدلونا، فإذا أبدى الأول رأيه وطرح وجهة نظره، لم يعلِّق أو يُعقِّب عليه بتلك العبارات التى تجرى على ألسنتنا فى العادة، من مثل: فتح الله عليك.. أو ما هذا الذى تقول؟ كان كمن يضع قناعا على وجهه، فلا ترى إن كان يستحسن ما يسمع أو يستقبحه، بل كان يمنع الآخرين من مقاطعة من يتحدث أو يعلق.. وهكذا، ثم يعطى الكلمة للثانى فالثالث والرابع.. إلخ، فإذا وجد إجماعا أو اتجاها عاما، أبرمه وقضاه، وقال: إذن.. هذا هو الرأى.. وكنا نستدرك عليه، فيقول: لكننا لم نسمع رأيك أنت يا أستاذ عمر؟ فيقول -رحمه الله: كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول لأبى بكر وعمر -رضى الله عنهما: لو اجتمعتما على أمر ما خالفتكما. وفى يوم من الأيام طرح علينا أن يتولى الأستاذ صلاح شادى -رحمه الله- مسؤولية نشر الدعوة، وكان يتولاها حينذاك الأخ المفضال أ.د.عبد الستار فتح الله سعيد، وهو مَن هو، ويبدو والله أعلم أن الأستاذ عمر كان يدّخر الأخير لعمل آخر.. فاعترض الجميع على مجرد الفكرة دون مناقشة. قال الأستاذ عمر: حنانيكم.. دعونا نسمع واحدا واحدا، ونناقش الأمر فى هدوء.. كنت أول المتحدثين.. شرحت وجهة نظرى، وقلت: إن مسؤول نشر الدعوة ليس شرطا أن يكون من الخطباء أو المحاضرين.. الأمر يحتاج إلى قدرة على فهم واستيعاب قضية نشر الدعوة، وهى من أهمّ وأجلّ المهام الرئيسية للجماعة.. يحتاج أيضا إلى دراية بخريطة المجتمع المصرى بكل فئاته وشرائحه، حيث إن ما يناسب هذه الفئة قد لا يكون صالحًا للفئة الأخرى، وهكذا.. يحتاج كذلك إلى قدرة على التخطيط، ومعرفة طاقات وإمكانات الإخوة، ثم قدرة على تحريك هؤلاء الإخوان.. ما إن وصلت إلى هذا الحد حتى وجدت رفضا ومقاطعة لما أقول.. وكأنهم فهموا أنى أريد أن أستلب المسؤولية من الدكتور عبد الستار ليتم إسنادها إلى الأستاذ صلاح.. وإذا بالأستاذ عمر يقول: دعوه.. فإنه والله لا يقول إلا الحق.. ودعانى لأكمل الحديث.. فقلت: أنا لا أتحدث عن أشخاص، فالكل إخوة كرام وفضلاء، وعلى عينى ورأسى.. أنا أتحدث فقط عن القواعد الأساسية لإسناد هذه المهمة أو تلك.. ودورنا هو أن نبحث عن انطباق هذه القواعد على أىٍّ من الأخوين، فإن وافقت أخانا الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد فبها ونعمت، وإن وافقت أخانا الأستاذ صلاح شادى فهذا من تمام الرضا، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى. سار المكتب التنفيذى (مكتب مصر) جنبا إلى جنب مع مكتب الإرشاد، غير أن كثيرين من الإخوان كانوا يلجؤون إلى الأستاذ عمر -المرشد العام- لحل المشكلات واستطلاع الرأى فى كثير من الأمور، وهو ما كان يُعاتب فيه الدكتور أحمد الملط الأستاذ عمر، إذ كان الدكتور أحمد الملط هو المسؤول فعليا عن ذلك، صحيح أن الإخوان فى مصر جزء من التجمع الإخوانى على المستوى العالمى، بل هم جزء رئيسى منه، وبالتالى لا غضاضة فى أن يكونوا موضع اهتمام المرشد العام، وكان الأستاذ عمر يقول: «ماذا أفعل يا دكتور أحمد؟ هم يأتوننى، ويُلحُّون، حاولت ردهم مرات، لكنهم كانوا يصرون». وإذا كان هذا يكشف طبيعة مكانة ومنزلة المرشد فى قلوب الإخوان، وأن من حقهم أن يتواصلوا مع مرشدهم وأن يبثوه كوامن أشجانهم، وأن من حقه كذلك أن يستمع إليهم، لكن فى الوقت ذاته يجب أن لا يغفلوا أن هناك مسؤولا مباشرا عنهم. فى الأشهر الأخيرة، مرض الأستاذ عمر ونُقل إلى المستشفى.. وكنا نجتمع به هناك.. فى البداية كان متوقد الذهن، واعيا لما يقول وما يُقال، وكانت له اقتراحات مفيدة ومثمرة للغاية.. ناقش معنا مسألة الحزب، وكان له فيها رأى.. ولما وجدنا مختلفين حول هذا الأمر، قال: «اذهبوا إلى المنيل -الذى أصبح فى ما بعد مقر المركز العام للإخوان المسلمين- وبيِّتوا فيه ليلةً معًا، وناقشوا موضوع الحزب إلى أن تنتهوا فيه إلى رأى». ومن أسف أن الأستاذ عمر توفى قبل أن يكمل هذه الخطوة العملاقة فى تاريخ الجماعة.
المصدر: التحرير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق