مذكرات نائب المرشد السابق.. د.محمد حبيب يكشف أسرار الإخوان من الداخل
هل هناك وقت أفضل من الآن لنعرف فيه مزيدا من تفاصيل وأسرار جماعة الإخوان المسلمين من الداخل؟ الوقت مناسب بكل تأكيد، الجماعة تستحوذ على غالبية البرلمان، وتسعى بكل قوتها لتشكيل الحكومة، كما أنها تنافس رسميا بمرشح فى الانتخابات الرئاسية القادمة، بينما يوجد اثنان على الأقل من المرشحين فى الانتخابات ذاتها من أصحاب الخلفية الإخوانية. من المهم إذن أن تكون هذه المعرفة المعمَّقة منسوبة إلى واحد من أعمدة الجماعة لسنوات طويلة وعصيبة، خصوصا تلك التى كانت فى عصر وزمن الرئيس السابق حسنى مبارك، ومن هنا تأتى أهمية مذكرات د.محمد حبيب نائب مرشد الإخوان المسلمين السابق الذى ترك منصبه فى عام 2009 واستقال من جماعة الإخوان عقب ثورة 25 يناير
، وانتهى من كتابتها عام 2010 فى مسقط رأسه بأسيوط، وتنشرها دار «الشروق» قريبا فى كتاب بعنوان «ذكريات د.محمد حبيب.. عن الحياة والدعوة والفكر والسياسة»، يتتبع فيه نشأته وسنوات تكوينه الأولى ونشاطه داخل الجماعة بداية من أسيوط، خصوصا فى نادى أعضاء هيئة التدريس، والعلاقة بين الجماعة والسلطة فى مصر وترشيح مبارك لفترة ثانية والمحاكمات العسكرية التى جرت لعدد من قيادات الإخوان، وكذلك التجربة النقابية للإخوان فى سنوات الملاحقة الأمنية والتضييق السياسى على أفرادها وكوادرها. و«التحرير» تنشر هذه المذكرات الهامة يوميا وكاملة على صفحاتها. 1- استئناف العمل ظل التضييق على العمل الإسلامى قائما منذ اعتقالات سبتمبر 1981، وحتى الأشهر الأولى من عام 1984، وفى بدايات 1983 زارنى فى أسيوط الأخ الدكتور السيد عبد الستار وقال لى إن الإخوان قرروا استئناف العمل، وإنه مكلف من قِبلهم بإبلاغى بذلك (كان الأخ محمد سليم -رحمه الله- يتحرك فى محاولة للملمة أطراف العمل فى المحافظات المختلفة).. التقينا فى القاهرة بعض الإخوان ممن وقَع عليهم الاختيار كى يكونوا ممثلين عن القطاعات المختلفة، هم الإخوة عبد المنعم أبو الفتوح، وممدوح الديرى -رحمه الله- وإبراهيم الزعفرانى، والسيد عبد الستار وآخرون. تم إنشاء مكتب تنفيذى فى مصر على غرار ما هو موجود فى بقية الأقطار، على اعتبار أن لكل قطر مكتبا تنفيذيا له خصوصيته وسياقه وظروفه التى يمارس الدعوة فى إطارها.. ومصر رغم أنها صاحبة الريادة والقيادة ومنشأ الدعوة، لها خصوصيتها أيضا، فلها دستورها وقوانينها ومشكلاتها وتحدياتها، وهكذا، وبالتالى يجب أن تنحصر اهتمامات المكتب التنفيذى فى عمل الإخوان داخل القطر المصرى فقط، وذلك يعين على الإنجاز والإتقان. وقد كان يرأس المكتب التنفيذى الدكتور أحمد الملط -رحمه الله- وكان ضمن أعضائه الإخوة الأساتذة: جابر رزق، وممدوح الديرى -رحمهما الله- وعبد المنعم أبو الفتوح، ومحمد حبيب، وآخرون، وأُسندت إلىّ مسؤولية الإخوان فى الصعيد. كان علىّ أن أجوب محافظات: بنى سويف، والفيوم، والمنيا، وأسيوط، وسوهاج، وقنا، وأسوان، وأن ألتقى الإخوان على مستوى القيادات الوسيطة وأفراد الصف.. أعطى التعليمات والتوجيهات الصادرة من المكتب التنفيذى فى كل المجالات التربوية والدعوية وأتابعها من ناحية، وأستمع إلى الأسئلة والاستفسارات من هؤلاء الإخوان وأعمل على حل المشكلات التى تواجههم من ناحية أخرى.. هذا فضلا عن إلقاء المحاضرات العامة فى المساجد والجامعات. وقد تطلب العمل جهدا كبيرا ووقتا وحركة دؤوبة، وأسأل الله تعالى أن يتقبل. كان نشاطنا مركَّزا حول الأمور المعتادة وهى التربية ونشر الدعوة بكل وسائلها وأدواتها، وما يتطلبه ذلك من ضبط إيقاع هيكل الجماعة فضلا عن المشكلة السياسية التى جرت بالتنسيق مع حزب الوفد فى خوض انتخابات مجلس الشعب عام 1984. فى هذه الفترة كان الإخوان يبحثون عمن يتولى إدارة المركز الإسلامى بميونيخ، وكنت مرشحا للقيام بهذه المهمة، إلا أن مسؤولية الإشراف على عمل الإخوان على مستوى الصعيد حالت دون ذلك، فضلا عن الظروف الاجتماعية والعلمية، وكان أن وقع الاختيار على الأستاذ محمد مهدى عاكف. 2- رحلة الحج الأولى وحاجتنا إلى التربية كانت اللقاءات تدور حول استنهاض هِمم الإخوان فى الحركة والعمل.. لم تكن هناك فرصة لأى لقاءات تربوية إلا فى الحدود الضيقة للغاية، فالأجهزة المعنية راصدة لتحركات العاملين فى الدعوة فى كل الاتجاهات.. لذا قررنا الذهاب إلى الحج فى صيف عام 1983 حيث فرصة لقاء مجموعة من الإخوان المختارين فى المحافظات المختلفة هناك مع بعضهم ليتعارفوا.. كان هناك برنامج تربوى جيد، فضلا عن مقابلات لبعض الدعاة من الإخوان الموجودين هناك. فى أجواء الحرم المكى تصفو النفوس وتحلِّق الأرواح.. هناك يشعر الإنسان أنه ترك دنياه وأقبل على أخراه.. شعور مختلف.. نقلة نوعية لا بد منها فى حياة الدعاة.. أدركتُ لماذا كان الدعاة والعلماء والمجاهدون الأوائل يحرصون على الذهاب إلى مكة حيث الصلوات الخمس، وقيام الليل، والطواف، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والاستغفار، حيث ينخلع الإنسان من ذنوبه، أو تسقط عنه ذنوبه. كنت فى الحرم فى نحو الساعة 11 صباحا، وكنت متعبا مجهدا.. فتمددت ألتمس لجسدى شيئا من الراحة وإذا بشيخ مهيب يلكزنى بعكازه ويقول: قم.. ليس هنا مكان نوم.. هنا مكان عبادة.. الحقيقة أنى تضايقت وهممت أن أردّ على الرجل، ولكنى تذكرت أنى فى الحرم، وفوجئت بأحد الجالسين إلى جوارى يقوم فيقبِّل يد الشيخ.. وحين انصرف الشيخ سألتُ هذا الذى قبَّل يده.. مَن هذا الشيخ؟ فقال: هذا هو عبد الله الخياط إمام الحرم.. فى المرة الأولى التى وقع فيها نظرى على الكعبة، أحسست أن قلبى يُسلب منى.. لقد وقعتُ فى هوى الكعبة.. فى أثناء الطواف والسعى عشت مع النبى -صلى الله عليه وسلم- أحلى وأصفى الأوقات.. كنت أجلس فى ساحة الكعبة أنظر إليها وأتأملها. عدت بالذاكرة إلى الوراء.. حيث أبونا آدم عليه السلام.. وحيث إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام.. جاء إلى هذا المكان ومعه هاجر وإسماعيل.. لقد رُزق إبراهيم بإسماعيل بعد عمر طويل.. بعد طول انتظار.. تعلق قلبه به.. إذن فليذهب به وأمه حيث البيت الحرام، هذا المكان القفر البعيد، ثم تركهما بمفردهما ومضى. فى عام 75 قمت واثنان من تلاميذى المعيدين بكلية علوم أسوان برحلة جيولوجية إلى الصحراء المتاخمة لمدينة أسوان، لم نبتعد كثيرا، كنا على بعد نحو 35 كيلومترا فقط.. تركتنا السيارة الجيب فى الساعة السابعة صباحا ومضت إلى المدينة، على أن تعود إلينا فى الساعة الثانية بعد الظهر.. كنا فى الصيف.. وفى الصباح كان الجو مائلا إلى الحرارة، مشيرا إلى أن ثمة غليانا ينتظرنا فى الظهيرة.. جلسنا نتناول طعام الإفطار فى سهل فسيح.. كنا ثلاثة رجال.. أحسست لحظتها بوحشة.. سرنا على أقدامنا نحو عشرة كيلومترات.. تذكّرت هاجر زوجة سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وابنهما إسماعيل والموقف الصعب الذى تُركا فيه.. كيف كانت مشاعرها وخوفها على رضيعها وعلى نفسها مما يحيط بها!! لقد عبّر القرآن عن ذلك على لسان إبراهيم بقوله: وصلنا إلى المكان الذى تواعدنا مع سائق السيارة أن يأتينا عنده.. الشمس أصحبت فى كبد السماء، تكاد تقترب من رؤوسنا، ولا توجد سحابة تخفف شيئا ما من حدة أشعتها الموقدة، ولا نسمة تهب علينا ولا مكانا نستظل به.. سألت تلميذينا: هل لديكما ماء؟ هل أحضرتما شيئا يرطب الحلق؟ قالا: لا.. لا يوجد سوى علبة مربى.. قلت: أعطيانى أى شىء.. أخذت ملعقتَى مربى، فإذا بها تزيد من عطشنا.. لا نستطيع أن نبتلع ريقنا.. كنا غير قادرين على الوقوف، ولا حتى على الجلوس فقد كانت الصخور ملتهبة.. الذى أريد أن أقوله هو إن قراءة القرآن وأنت فى مكان مكيَّف الهواء، وبجوارك زوجك وأولادك، والماء البارد فى متناول يدك شىء جميل ولطيف لكنه لا يعطيك إحساسا بالمعانى.. إذ كيف تشعر بالخوف والفزع الذى ساور هاجر ومعها طفلها فى هذا المكان القفر الموحش؟ لا بد من المعايشة والمعاناة.. هذه هى القضية. كنت أمرُّ على سيرة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وأقف عند إحدى سفراته حين حضر القوم وقت الغداء وكان عليهم أن يذبحوا شاة.. قال واحد من الصحابة: أنا علىَّ ذبحها.. وقال ثانٍ: وأنا علىَّ سلخها، وقال ثالث: وأنا علىَّ طهيها.. فقال النبى (صلى الله عليه وسلم): وأنا علىَّ جمع الحطب.. أقول كنت أمرُّ على هذه القصة كشىء عادى.. لا يحرِّك معنى سوى أن النبى يريد أن يشارك بجهده كما بقية الصحابة. لم أدرك حقيقة قول النبى (صلى الله عليه وسلم) إلا حينما قمت برحلة جيولوجية فى عمق صحراء الجبال غرب مدينة سفاجا.. اكتشفت أننا نسينا عمود الخيمة.. وقمنا نبحث بجوار السيارة الجيب عن شجرة، نأخذ فرعا منها كى نصنع منه عمودا للخيمة.. هل تعرف أخى القارئ كم مضى علينا من الوقت ونحن نبحث عن ضالتنا فى الصحراء؟ نحو أربع ساعات.. تستطيع أن تدرك إذن قولة النبى: وأنا علىَّ جمع الحطب.. لقد اختار أشق الأعمال وأكثرها نَصَبًا وتعبًا.. وهكذا القيادة.. والمسؤولية.. لا تتصور أنك حين تصير قائدا أو مسؤولا أنك سوف تجلس على كرسى وثير وحولك الأتباع والأعوان، ثم تُصدِر إليهم الأوامر.. القيادة أمانة ومسؤولية وتبعة وحقوق ومواقف. فى مناسك الحج تتعلم معنى التسليم والانقياد لله.. تعيش التاريخ بكل ما فيه، تقلب صفحاته، تتعرف على سنته، تقترب من شخصياته التى صنعته أو كان لها دور فى صناعته أو توجيهه.. فى مناسك الحج ترى الإسلام على أروع ما يكون، مختلف الأشكال والألوان واللغات جاؤوا من كل بقاع الدنيا، جمعهم الإسلام، ووحَّدتهم شعائره.. فالله واحد، والرسول واحد، والقِبلة واحدة.. وأراد الله تعالى فى هذا المشهد العظيم أن يكون لباسهم هو الآخر واحدا، لا فرق بين غنى وفقير، أو وزير وخفير. كان معنا الأخ وجدى غنيم، الذى كان حريصا على خدمة إخوانه، خصوصا فى ما يتعلق بتثليج الماء فى ذلك الجو القائظ، وكان يقوم بهذا العمل بهمة بالغة، فأطلقنا عليه وزير السقاية. صبيحة يوم عرفة تلكأ الإخوان فى ركوب الحافلة التى ستُقِلّنا من مِنى إلى عرفة.. كنت أستعجلهم بكل الوسائل، حتى لا تفوتنا ساعة واحدة فى الوقوف بعرفة، فالحج عرفة كما قال النبى (صلى الله عليه وسلم) وكان آخر الراكبين أخى الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، غير أنه اكتشف فى اللحظة الأخيرة أنه نسى ساعته فى مخيم مِنى، فأراد أن يرجع لالتقاطها، فقد لا يجدها عند العودة، قلت: لا تفعل.. فالله خير حافظا.. فرد علىّ، باستكمال بقية الآية: وهو أرحم الرحمين.. وصدق حدس عبد المنعم، فحينما عدنا إلى المخيم فى أول أيام العيد لم نجد الساعة.. كان حزما منِّى لكنه فى غير موضعه، وكان التزاما من أخى عبد المنعم لكنه فى موضعه، صحيح أنه أفقده ساعته، غير أنه ضرب مثلا يُحتذى. ليس هناك يوم أعظم من يوم عرفة.. هناك بكيْنا كثيرا، وتضرَّعنا كثيرا، ومع ذلك لم نكلّ من الذكر والدعاء والاستغفار.. شعرنا بطهارة نفوسنا، ورقة قلوبنا، وصفاء أرواحنا، وأن الله تعالى تنزّل علينا برحماته وغفرانه ورضوانه، وأن الملائكة تحفّنا من كل جانب.. كان مجتمعا ملائكيا.. ولمَ لا؟ لقد كنا حريصين على الالتزام الحرفى بالسُّنة، نريد أن ننال أعظم الأجر، نريد أن نستشعر معية الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحبه الكرام فى كل ما نقول وما نفعل.. نفرْنا من عرفة عند الغروب إلى مزدلفة، وهناك صلينا المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا، وبِتْنا على الحصير، وقبل الفجر جمعنا حصوات الرمى، ثم صلينا، ومضينا إلى مِنى لرمى جمرة العقبة. ذهبنا إلى المدينة حيث يرقد الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وصاحباه أبو بكر وعمر، رضى الله عنهما.. صلينا فى الروضة الشريفة، فهى كما قال (صلى الله عليه وسلم): «ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة».. وقفت أمام قبره ووجدتنى أتمتم كما فعل شيخنا الغزالى من قبل: يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ فِى التّرْبِ أَعْظُمهُ فَطَابَتْ مِنْ طِيبِهِنّ القَاعُ وَالأُكُمُ لا أدرى ما الذى انتابنى واستولى علىّ، فقد قفزت إلى ذهنى رائعة شوقى «نهج البردة» التى أنشدتها أم كلثوم: وَلِدَ الهُدَى فَالكَائِنَاتُ ضِيَاءُ وَفَمُ الزَّمَانِ تَبَسُّمٌ وثَنَاءُ وقوله: وَعَلَّمَنَا بِنَاءَ المَجْدِ حَتّى أَخَذْنا إِمْرَةَ الأَرْضِ اغْتِصَابَا وَمَا نَيْلُ المَطَالِبِ بِالتَّمَنِّى وَلَكِنْ تُؤْخَذُ الدُّنْيِا غِلاَبَا وَمَا اسْتَعْصَى عَلَى قَوْمٍ مَنَالٌ إِذَا الإقْدَامُ كَانَ لَهُمْ رِكَابَا وتساءلت: هل حقا رقد الحبيب فى هذا المكان؟ وهل أنا واقف أمامه الآن؟ هل أكرمنى ربى بهذه الكرامة ومنحنى هذا الفيض الربانى فجعلنى أقف خاشعا، دامعا، ذاهلا عن نفسى ووجودى؟ وقفنا أمام العظمة بكل جلالها وجمالها والتاريخ بكل عبقه وسحره.. أمام النبوة والرسالة.. أمام الهدى الذى لا هدى غيره، والنور الذى أضاء الكون كله.. أمام صِلَة الأرض بالسماء حيث الملأ الأعلى وسدرة المنتهى.. الدنيا كلها تم اختصارها فى هذه اللحظات، أما الآخرة قد فتحت لنا أبوابها على مصاريعها.. حيث الفردوس الأعلى وصحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقا، حيث النعيم المقيم.. ثم الرضوان الأكبر.. «ورضوان من الله أكبر» ألم يقل سبحانه: إنها رؤية الله عز وجل.. يا الله! كنت أرى من الحجيج أشياء عجبا.. من يركضون فى السعى بين الصفا والمروة ركضًا، كأنهم فى سباق!! وفى جمرة العقبة يلقى الحاج بأى شىء فى يده بمظلته أو خُفه.. ويتلفظ بألفاظ تثير الضحك والرثاء معًا.. يقول للشيطان وهو يقوم برجمه: يا ابن كذا وكذا، أو أنت السبب الذى جعلنى أطلِّق فلانة.. لقد أفسدت علىّ علاقتى بأصحابى أو أولادى، ونحو ذلك. فى مسجد الحبيب كنت أرى من يتمسح بأجهزة التكييف، أو يمكث فى الروضة الشريف طول الوقت فلا يتيح لإخوانه فرصة الصلاة فيها، والحقيقة أن هذا يلقى على كواهلنا مسؤولية كبيرة.. فالمسلمون فى بقاع شتى من العالم يحتاجون إلى تأهيل وتثقيف. وعلى النقيض، كان هناك من الحجيج من يؤدى المناسك على وجهها الصحيح وبشكل يتطابق تماما مع السنة.. كأهل ماليزيا وإندونيسيا.. وقد سمعت أنهم يصنعون لهم نماذج أو وسائل إيضاح قبل المجىء إلى الحج. وقد أتيح لنا أن نزور بعض المعالم فى المدينة: مسجد قباء، ذى القبلتين، والبقيع، وجبل أُحد، والرُّماة.. كنت أود زيارة غار حراء باكورة التاريخ حيث التحنُّث قبل البعثة، مهبط جبريل عليه السلام وبشائر النبوة، وكنت أود زيارة غار ثور، حيث اختباء الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه يوم الهجرة حيث كان الميلاد الجديد للدعوة، وأسأل الله تعالى أن تتاح لى هاتان الفرصتان قبل أن أودِّع الدنيا. إن الإنسان منا جزء من تاريخ يجب أن يكون موصولا به غير منفك عنه، وإلا فقدَ كيانه ووجوده. عدنا إلى مكة، وكانت فرصة أخرى أن ننهل من معين الحرم ما شاء الله لنا؛ الطواف، والصلاة والذكر، والدعاء والحرص على تقبيل الحجر الأسود، والصلاة فى حِجر إسماعيل، فالصلاة فيه كالصلاة داخل الكعبة.. ثم ماء زمزم وما أدراك، فـ«ماء زمزم لما شُرب له». استغرقت الرحلة كلها نحو 36 يوما مرت كأنها لحظة، وهكذا الأوقات السعيدة.. وكنا نتمنى أن لا نعود.. لكن لا بد لكل شىء من نهاية.. طفنا طواف الوادع، وذهبنا إلى جدة، واستضافنا الأخ جمعة أمين فى شقته لسويعات قبل المضى إلى المطار، ثم منه إلى القاهرة.
هل هناك وقت أفضل من الآن لنعرف فيه مزيدا من تفاصيل وأسرار جماعة الإخوان المسلمين من الداخل؟ الوقت مناسب بكل تأكيد، الجماعة تستحوذ على غالبية البرلمان، وتسعى بكل قوتها لتشكيل الحكومة، كما أنها تنافس رسميا بمرشح فى الانتخابات الرئاسية القادمة، بينما يوجد اثنان على الأقل من المرشحين فى الانتخابات ذاتها من أصحاب الخلفية الإخوانية. من المهم إذن أن تكون هذه المعرفة المعمَّقة منسوبة إلى واحد من أعمدة الجماعة لسنوات طويلة وعصيبة، خصوصا تلك التى كانت فى عصر وزمن الرئيس السابق حسنى مبارك، ومن هنا تأتى أهمية مذكرات د.محمد حبيب نائب مرشد الإخوان المسلمين السابق الذى ترك منصبه فى عام 2009 واستقال من جماعة الإخوان عقب ثورة 25 يناير
، وانتهى من كتابتها عام 2010 فى مسقط رأسه بأسيوط، وتنشرها دار «الشروق» قريبا فى كتاب بعنوان «ذكريات د.محمد حبيب.. عن الحياة والدعوة والفكر والسياسة»، يتتبع فيه نشأته وسنوات تكوينه الأولى ونشاطه داخل الجماعة بداية من أسيوط، خصوصا فى نادى أعضاء هيئة التدريس، والعلاقة بين الجماعة والسلطة فى مصر وترشيح مبارك لفترة ثانية والمحاكمات العسكرية التى جرت لعدد من قيادات الإخوان، وكذلك التجربة النقابية للإخوان فى سنوات الملاحقة الأمنية والتضييق السياسى على أفرادها وكوادرها. و«التحرير» تنشر هذه المذكرات الهامة يوميا وكاملة على صفحاتها. 1- استئناف العمل ظل التضييق على العمل الإسلامى قائما منذ اعتقالات سبتمبر 1981، وحتى الأشهر الأولى من عام 1984، وفى بدايات 1983 زارنى فى أسيوط الأخ الدكتور السيد عبد الستار وقال لى إن الإخوان قرروا استئناف العمل، وإنه مكلف من قِبلهم بإبلاغى بذلك (كان الأخ محمد سليم -رحمه الله- يتحرك فى محاولة للملمة أطراف العمل فى المحافظات المختلفة).. التقينا فى القاهرة بعض الإخوان ممن وقَع عليهم الاختيار كى يكونوا ممثلين عن القطاعات المختلفة، هم الإخوة عبد المنعم أبو الفتوح، وممدوح الديرى -رحمه الله- وإبراهيم الزعفرانى، والسيد عبد الستار وآخرون. تم إنشاء مكتب تنفيذى فى مصر على غرار ما هو موجود فى بقية الأقطار، على اعتبار أن لكل قطر مكتبا تنفيذيا له خصوصيته وسياقه وظروفه التى يمارس الدعوة فى إطارها.. ومصر رغم أنها صاحبة الريادة والقيادة ومنشأ الدعوة، لها خصوصيتها أيضا، فلها دستورها وقوانينها ومشكلاتها وتحدياتها، وهكذا، وبالتالى يجب أن تنحصر اهتمامات المكتب التنفيذى فى عمل الإخوان داخل القطر المصرى فقط، وذلك يعين على الإنجاز والإتقان. وقد كان يرأس المكتب التنفيذى الدكتور أحمد الملط -رحمه الله- وكان ضمن أعضائه الإخوة الأساتذة: جابر رزق، وممدوح الديرى -رحمهما الله- وعبد المنعم أبو الفتوح، ومحمد حبيب، وآخرون، وأُسندت إلىّ مسؤولية الإخوان فى الصعيد. كان علىّ أن أجوب محافظات: بنى سويف، والفيوم، والمنيا، وأسيوط، وسوهاج، وقنا، وأسوان، وأن ألتقى الإخوان على مستوى القيادات الوسيطة وأفراد الصف.. أعطى التعليمات والتوجيهات الصادرة من المكتب التنفيذى فى كل المجالات التربوية والدعوية وأتابعها من ناحية، وأستمع إلى الأسئلة والاستفسارات من هؤلاء الإخوان وأعمل على حل المشكلات التى تواجههم من ناحية أخرى.. هذا فضلا عن إلقاء المحاضرات العامة فى المساجد والجامعات. وقد تطلب العمل جهدا كبيرا ووقتا وحركة دؤوبة، وأسأل الله تعالى أن يتقبل. كان نشاطنا مركَّزا حول الأمور المعتادة وهى التربية ونشر الدعوة بكل وسائلها وأدواتها، وما يتطلبه ذلك من ضبط إيقاع هيكل الجماعة فضلا عن المشكلة السياسية التى جرت بالتنسيق مع حزب الوفد فى خوض انتخابات مجلس الشعب عام 1984. فى هذه الفترة كان الإخوان يبحثون عمن يتولى إدارة المركز الإسلامى بميونيخ، وكنت مرشحا للقيام بهذه المهمة، إلا أن مسؤولية الإشراف على عمل الإخوان على مستوى الصعيد حالت دون ذلك، فضلا عن الظروف الاجتماعية والعلمية، وكان أن وقع الاختيار على الأستاذ محمد مهدى عاكف. 2- رحلة الحج الأولى وحاجتنا إلى التربية كانت اللقاءات تدور حول استنهاض هِمم الإخوان فى الحركة والعمل.. لم تكن هناك فرصة لأى لقاءات تربوية إلا فى الحدود الضيقة للغاية، فالأجهزة المعنية راصدة لتحركات العاملين فى الدعوة فى كل الاتجاهات.. لذا قررنا الذهاب إلى الحج فى صيف عام 1983 حيث فرصة لقاء مجموعة من الإخوان المختارين فى المحافظات المختلفة هناك مع بعضهم ليتعارفوا.. كان هناك برنامج تربوى جيد، فضلا عن مقابلات لبعض الدعاة من الإخوان الموجودين هناك. فى أجواء الحرم المكى تصفو النفوس وتحلِّق الأرواح.. هناك يشعر الإنسان أنه ترك دنياه وأقبل على أخراه.. شعور مختلف.. نقلة نوعية لا بد منها فى حياة الدعاة.. أدركتُ لماذا كان الدعاة والعلماء والمجاهدون الأوائل يحرصون على الذهاب إلى مكة حيث الصلوات الخمس، وقيام الليل، والطواف، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والاستغفار، حيث ينخلع الإنسان من ذنوبه، أو تسقط عنه ذنوبه. كنت فى الحرم فى نحو الساعة 11 صباحا، وكنت متعبا مجهدا.. فتمددت ألتمس لجسدى شيئا من الراحة وإذا بشيخ مهيب يلكزنى بعكازه ويقول: قم.. ليس هنا مكان نوم.. هنا مكان عبادة.. الحقيقة أنى تضايقت وهممت أن أردّ على الرجل، ولكنى تذكرت أنى فى الحرم، وفوجئت بأحد الجالسين إلى جوارى يقوم فيقبِّل يد الشيخ.. وحين انصرف الشيخ سألتُ هذا الذى قبَّل يده.. مَن هذا الشيخ؟ فقال: هذا هو عبد الله الخياط إمام الحرم.. فى المرة الأولى التى وقع فيها نظرى على الكعبة، أحسست أن قلبى يُسلب منى.. لقد وقعتُ فى هوى الكعبة.. فى أثناء الطواف والسعى عشت مع النبى -صلى الله عليه وسلم- أحلى وأصفى الأوقات.. كنت أجلس فى ساحة الكعبة أنظر إليها وأتأملها. عدت بالذاكرة إلى الوراء.. حيث أبونا آدم عليه السلام.. وحيث إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام.. جاء إلى هذا المكان ومعه هاجر وإسماعيل.. لقد رُزق إبراهيم بإسماعيل بعد عمر طويل.. بعد طول انتظار.. تعلق قلبه به.. إذن فليذهب به وأمه حيث البيت الحرام، هذا المكان القفر البعيد، ثم تركهما بمفردهما ومضى. فى عام 75 قمت واثنان من تلاميذى المعيدين بكلية علوم أسوان برحلة جيولوجية إلى الصحراء المتاخمة لمدينة أسوان، لم نبتعد كثيرا، كنا على بعد نحو 35 كيلومترا فقط.. تركتنا السيارة الجيب فى الساعة السابعة صباحا ومضت إلى المدينة، على أن تعود إلينا فى الساعة الثانية بعد الظهر.. كنا فى الصيف.. وفى الصباح كان الجو مائلا إلى الحرارة، مشيرا إلى أن ثمة غليانا ينتظرنا فى الظهيرة.. جلسنا نتناول طعام الإفطار فى سهل فسيح.. كنا ثلاثة رجال.. أحسست لحظتها بوحشة.. سرنا على أقدامنا نحو عشرة كيلومترات.. تذكّرت هاجر زوجة سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وابنهما إسماعيل والموقف الصعب الذى تُركا فيه.. كيف كانت مشاعرها وخوفها على رضيعها وعلى نفسها مما يحيط بها!! لقد عبّر القرآن عن ذلك على لسان إبراهيم بقوله: وصلنا إلى المكان الذى تواعدنا مع سائق السيارة أن يأتينا عنده.. الشمس أصحبت فى كبد السماء، تكاد تقترب من رؤوسنا، ولا توجد سحابة تخفف شيئا ما من حدة أشعتها الموقدة، ولا نسمة تهب علينا ولا مكانا نستظل به.. سألت تلميذينا: هل لديكما ماء؟ هل أحضرتما شيئا يرطب الحلق؟ قالا: لا.. لا يوجد سوى علبة مربى.. قلت: أعطيانى أى شىء.. أخذت ملعقتَى مربى، فإذا بها تزيد من عطشنا.. لا نستطيع أن نبتلع ريقنا.. كنا غير قادرين على الوقوف، ولا حتى على الجلوس فقد كانت الصخور ملتهبة.. الذى أريد أن أقوله هو إن قراءة القرآن وأنت فى مكان مكيَّف الهواء، وبجوارك زوجك وأولادك، والماء البارد فى متناول يدك شىء جميل ولطيف لكنه لا يعطيك إحساسا بالمعانى.. إذ كيف تشعر بالخوف والفزع الذى ساور هاجر ومعها طفلها فى هذا المكان القفر الموحش؟ لا بد من المعايشة والمعاناة.. هذه هى القضية. كنت أمرُّ على سيرة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وأقف عند إحدى سفراته حين حضر القوم وقت الغداء وكان عليهم أن يذبحوا شاة.. قال واحد من الصحابة: أنا علىَّ ذبحها.. وقال ثانٍ: وأنا علىَّ سلخها، وقال ثالث: وأنا علىَّ طهيها.. فقال النبى (صلى الله عليه وسلم): وأنا علىَّ جمع الحطب.. أقول كنت أمرُّ على هذه القصة كشىء عادى.. لا يحرِّك معنى سوى أن النبى يريد أن يشارك بجهده كما بقية الصحابة. لم أدرك حقيقة قول النبى (صلى الله عليه وسلم) إلا حينما قمت برحلة جيولوجية فى عمق صحراء الجبال غرب مدينة سفاجا.. اكتشفت أننا نسينا عمود الخيمة.. وقمنا نبحث بجوار السيارة الجيب عن شجرة، نأخذ فرعا منها كى نصنع منه عمودا للخيمة.. هل تعرف أخى القارئ كم مضى علينا من الوقت ونحن نبحث عن ضالتنا فى الصحراء؟ نحو أربع ساعات.. تستطيع أن تدرك إذن قولة النبى: وأنا علىَّ جمع الحطب.. لقد اختار أشق الأعمال وأكثرها نَصَبًا وتعبًا.. وهكذا القيادة.. والمسؤولية.. لا تتصور أنك حين تصير قائدا أو مسؤولا أنك سوف تجلس على كرسى وثير وحولك الأتباع والأعوان، ثم تُصدِر إليهم الأوامر.. القيادة أمانة ومسؤولية وتبعة وحقوق ومواقف. فى مناسك الحج تتعلم معنى التسليم والانقياد لله.. تعيش التاريخ بكل ما فيه، تقلب صفحاته، تتعرف على سنته، تقترب من شخصياته التى صنعته أو كان لها دور فى صناعته أو توجيهه.. فى مناسك الحج ترى الإسلام على أروع ما يكون، مختلف الأشكال والألوان واللغات جاؤوا من كل بقاع الدنيا، جمعهم الإسلام، ووحَّدتهم شعائره.. فالله واحد، والرسول واحد، والقِبلة واحدة.. وأراد الله تعالى فى هذا المشهد العظيم أن يكون لباسهم هو الآخر واحدا، لا فرق بين غنى وفقير، أو وزير وخفير. كان معنا الأخ وجدى غنيم، الذى كان حريصا على خدمة إخوانه، خصوصا فى ما يتعلق بتثليج الماء فى ذلك الجو القائظ، وكان يقوم بهذا العمل بهمة بالغة، فأطلقنا عليه وزير السقاية. صبيحة يوم عرفة تلكأ الإخوان فى ركوب الحافلة التى ستُقِلّنا من مِنى إلى عرفة.. كنت أستعجلهم بكل الوسائل، حتى لا تفوتنا ساعة واحدة فى الوقوف بعرفة، فالحج عرفة كما قال النبى (صلى الله عليه وسلم) وكان آخر الراكبين أخى الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، غير أنه اكتشف فى اللحظة الأخيرة أنه نسى ساعته فى مخيم مِنى، فأراد أن يرجع لالتقاطها، فقد لا يجدها عند العودة، قلت: لا تفعل.. فالله خير حافظا.. فرد علىّ، باستكمال بقية الآية: وهو أرحم الرحمين.. وصدق حدس عبد المنعم، فحينما عدنا إلى المخيم فى أول أيام العيد لم نجد الساعة.. كان حزما منِّى لكنه فى غير موضعه، وكان التزاما من أخى عبد المنعم لكنه فى موضعه، صحيح أنه أفقده ساعته، غير أنه ضرب مثلا يُحتذى. ليس هناك يوم أعظم من يوم عرفة.. هناك بكيْنا كثيرا، وتضرَّعنا كثيرا، ومع ذلك لم نكلّ من الذكر والدعاء والاستغفار.. شعرنا بطهارة نفوسنا، ورقة قلوبنا، وصفاء أرواحنا، وأن الله تعالى تنزّل علينا برحماته وغفرانه ورضوانه، وأن الملائكة تحفّنا من كل جانب.. كان مجتمعا ملائكيا.. ولمَ لا؟ لقد كنا حريصين على الالتزام الحرفى بالسُّنة، نريد أن ننال أعظم الأجر، نريد أن نستشعر معية الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحبه الكرام فى كل ما نقول وما نفعل.. نفرْنا من عرفة عند الغروب إلى مزدلفة، وهناك صلينا المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا، وبِتْنا على الحصير، وقبل الفجر جمعنا حصوات الرمى، ثم صلينا، ومضينا إلى مِنى لرمى جمرة العقبة. ذهبنا إلى المدينة حيث يرقد الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وصاحباه أبو بكر وعمر، رضى الله عنهما.. صلينا فى الروضة الشريفة، فهى كما قال (صلى الله عليه وسلم): «ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة».. وقفت أمام قبره ووجدتنى أتمتم كما فعل شيخنا الغزالى من قبل: يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ فِى التّرْبِ أَعْظُمهُ فَطَابَتْ مِنْ طِيبِهِنّ القَاعُ وَالأُكُمُ لا أدرى ما الذى انتابنى واستولى علىّ، فقد قفزت إلى ذهنى رائعة شوقى «نهج البردة» التى أنشدتها أم كلثوم: وَلِدَ الهُدَى فَالكَائِنَاتُ ضِيَاءُ وَفَمُ الزَّمَانِ تَبَسُّمٌ وثَنَاءُ وقوله: وَعَلَّمَنَا بِنَاءَ المَجْدِ حَتّى أَخَذْنا إِمْرَةَ الأَرْضِ اغْتِصَابَا وَمَا نَيْلُ المَطَالِبِ بِالتَّمَنِّى وَلَكِنْ تُؤْخَذُ الدُّنْيِا غِلاَبَا وَمَا اسْتَعْصَى عَلَى قَوْمٍ مَنَالٌ إِذَا الإقْدَامُ كَانَ لَهُمْ رِكَابَا وتساءلت: هل حقا رقد الحبيب فى هذا المكان؟ وهل أنا واقف أمامه الآن؟ هل أكرمنى ربى بهذه الكرامة ومنحنى هذا الفيض الربانى فجعلنى أقف خاشعا، دامعا، ذاهلا عن نفسى ووجودى؟ وقفنا أمام العظمة بكل جلالها وجمالها والتاريخ بكل عبقه وسحره.. أمام النبوة والرسالة.. أمام الهدى الذى لا هدى غيره، والنور الذى أضاء الكون كله.. أمام صِلَة الأرض بالسماء حيث الملأ الأعلى وسدرة المنتهى.. الدنيا كلها تم اختصارها فى هذه اللحظات، أما الآخرة قد فتحت لنا أبوابها على مصاريعها.. حيث الفردوس الأعلى وصحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقا، حيث النعيم المقيم.. ثم الرضوان الأكبر.. «ورضوان من الله أكبر» ألم يقل سبحانه: إنها رؤية الله عز وجل.. يا الله! كنت أرى من الحجيج أشياء عجبا.. من يركضون فى السعى بين الصفا والمروة ركضًا، كأنهم فى سباق!! وفى جمرة العقبة يلقى الحاج بأى شىء فى يده بمظلته أو خُفه.. ويتلفظ بألفاظ تثير الضحك والرثاء معًا.. يقول للشيطان وهو يقوم برجمه: يا ابن كذا وكذا، أو أنت السبب الذى جعلنى أطلِّق فلانة.. لقد أفسدت علىّ علاقتى بأصحابى أو أولادى، ونحو ذلك. فى مسجد الحبيب كنت أرى من يتمسح بأجهزة التكييف، أو يمكث فى الروضة الشريف طول الوقت فلا يتيح لإخوانه فرصة الصلاة فيها، والحقيقة أن هذا يلقى على كواهلنا مسؤولية كبيرة.. فالمسلمون فى بقاع شتى من العالم يحتاجون إلى تأهيل وتثقيف. وعلى النقيض، كان هناك من الحجيج من يؤدى المناسك على وجهها الصحيح وبشكل يتطابق تماما مع السنة.. كأهل ماليزيا وإندونيسيا.. وقد سمعت أنهم يصنعون لهم نماذج أو وسائل إيضاح قبل المجىء إلى الحج. وقد أتيح لنا أن نزور بعض المعالم فى المدينة: مسجد قباء، ذى القبلتين، والبقيع، وجبل أُحد، والرُّماة.. كنت أود زيارة غار حراء باكورة التاريخ حيث التحنُّث قبل البعثة، مهبط جبريل عليه السلام وبشائر النبوة، وكنت أود زيارة غار ثور، حيث اختباء الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه يوم الهجرة حيث كان الميلاد الجديد للدعوة، وأسأل الله تعالى أن تتاح لى هاتان الفرصتان قبل أن أودِّع الدنيا. إن الإنسان منا جزء من تاريخ يجب أن يكون موصولا به غير منفك عنه، وإلا فقدَ كيانه ووجوده. عدنا إلى مكة، وكانت فرصة أخرى أن ننهل من معين الحرم ما شاء الله لنا؛ الطواف، والصلاة والذكر، والدعاء والحرص على تقبيل الحجر الأسود، والصلاة فى حِجر إسماعيل، فالصلاة فيه كالصلاة داخل الكعبة.. ثم ماء زمزم وما أدراك، فـ«ماء زمزم لما شُرب له». استغرقت الرحلة كلها نحو 36 يوما مرت كأنها لحظة، وهكذا الأوقات السعيدة.. وكنا نتمنى أن لا نعود.. لكن لا بد لكل شىء من نهاية.. طفنا طواف الوادع، وذهبنا إلى جدة، واستضافنا الأخ جمعة أمين فى شقته لسويعات قبل المضى إلى المطار، ثم منه إلى القاهرة.
المصدر: التحرير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق