3- رحلة الحج الثانية:
سافرت إلى الحج هذه المرة صيف عام 1985 وفى نيتى سد كل أوجه القصور التى حدثت فى المرة الأولى، بحيث لا تمر دقيقة أو لحظة دون الاستفادة القصوى فى العبادة.. لقد كنت حريصا فى المرة الأولى أن أشترى بعض الحاجيات مما تحفل به السوق الحرة فى السعودية، للبيت والأولاد تحقيقا للمبدأ القائل: حَجَّة وحاجَة.. أردت هذه المرة أن لا أنشغل بشىء مطلقا سوى العبادة.. وقد كان والحمد لله.
وأنا جالس فى ساحة الكعبة، بعد الطواف والصلاة، تذكرت أختا فاضلة تدعى سلمى تعمل فى مدرسة «حراء» بأسيوط، وكيف أن زوجتى حمَّلتنى مسؤولية تزويجها، فقد تزوجت كل الأخوات ما عدا الأخت سلمى، خصوصا أنها حريصة على أن تتزوج واحدا من الإخوان.. تذكرت ذلك فدعوت الله مخلصا أن يرزقها بزوج صالح من شباب الإخوان، ألححت فى الدعاء وسألت الله تعالى أن يجبر خاطرى. مشيت وإخوانى على أقدامنا المسافة من مكة إلى مِنى، وفى صبيحة يوم عرفة انطلقنا فى حافلة حتى نصل إليها ونحن فى راحة تمكننا من الوقوف بعرفة على الوجه الأمثل، من حيث قراءة القرآن والذكر والدعاء والاستغفار والابتهال إلى الله تعالى.. لقد رأيت بعض الحجاج ينامون سويعات فى هذا اليوم، أو يقضون وقتهم فى الطعام والشراب والمزاح والهزل، غافلين عن أهمية اليقظة الكاملة والانتباه التام فى هذا اليوم العظيم الذى يتنزل الله فيه على عباده ويباهى بهم الملائكة. عند الغروب بدأنا تحركنا سيرا على الأقدام إلى مزدلفة، وعندها صلينا المغرب والعشاء جمعًا، ونمنا بعض سويعات.. قمنا وتجهزنا وجمعنا حصوات الرمى، صلينا الفجر، وبعدها استكملنا المسير إلى مِنى، وأنا فى طريقى إلى رمى جمرة العقبة، وكان الزحام شديدا كأنه يوم الحشر، سمعت صوتا ينادينى باسمى.. التفتُّ فإذا بصاحب الصوت يمد إلىّ يده وكان قريبا منى، كان الأخ جمال محروس المعيد بكلية صيدلة أسيوط من شباب الإخوان الذين خرجوا من مصر عقب اعتقالات سبتمبر 1981، واستقر فى الرياض، تعانقنا فى وسط هذا الزحام، ومضينا معًا إلى جمرة العقبة. قال لى: لقد دعوت الله تعالى أمام الكعبة وفى عرفة أن أراك، وقد استجاب الله تعالى دعائى.. سألته: جمال.. هل تزوجت؟ قال: لا.. قلت: إذن عندى لك عروس صالحة.. قال: أوَتفكر لى؟ قلت: نعم.. قال: أوَترضى هى بى؟ قلت لن أجد أحدا خيرا لك منها، ولا أحدا خيرا لها منك.. قال: من هى؟ قلت: الأخت سلمى.. فلقد سألت الله تعالى أن يرزقها زوجا صالحا.. وأنت هذا الرجل.. قال: إذن على بركة الله.. سوف أحاول النزول بعد الحج إلى أسيوط، وإلا فإننى سأبعث بتوكيل إلى والدى بأسيوط ليتم العقد.. قلت: الله على ما نقول وكيل. حينما نزلت بعد الحج إلى أسيوط قمت بالاتصال بالأخت الفاضلة وفاء مصطفى مشهور، وأفضيت إليها بالأمر على أن تنقل الرسالة إلى الأخت سلمى، وقد قامت بالفعل بزيارة الأخت سلمى وتحدثت معها فى أمر الاقتران بالأخ جمال محروس فوافقت، ولم يستطع الأخ جمال النزول إلى أسيوط، وأرسل إلى والده بالتوكيل لكى يقوم بعقد الزواج نيابة عنه، وتم ذلك بالفعل فى غضون أسابيع قليلة، وسافرت الأخت سلمى إلى الأخ جمال وبَنَى بها بمكة المكرمة، ورزقه الله تعالى منها ذرية صالحة، وأسأل الله تعالى أن يبارك فيهما وفى أولادهما وأن يسترنا وإياهم جميعا فى الدنيا والآخرة. القارئ العزيز.. إن دعوة مخلصة تخرج من قلبك فى لحظة من لحظات النقاء والصفاء لا بد أن تُفتح لها أبواب السماء.. ألم يقل ربنا جل وعلا: «ادعونى أستجب لكم»؟ أنهينا مناسك الحج وذهبنا إلى المدينة المنورة لزيارة الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم). فى هذه المرة حرصنا على رؤية المزارات المختلفة، الخندق حيث نَصَرَ الله عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، وحِصن كعب بن الأشرف ذلك اليهودى اللئيم الفاجر. وفى طريق عودتنا إلى مكة وقفنا طويلا عند المكان الذى جرت فيه غزوة بدر الكبرى، تلك المعركة الفاصلة فى تاريخ الإسلام، رأينا العُدوة الدنيا والعُدوة القصوى ومسجد التعريشة، فى المكان الذى اتخذه أهل بدر للنبى (صلى الله عليه وسلم) لإدارة المعركة.. نزلت إلى بئر بدر.. للأسف وجدتها حفرة مهجورة خالية من الماء، لا علامة ولا إشارة. كان الحاج محمود شكرى -رحمه الله- مسؤولا عن رحلة الحج، وأعتقد أننا استفدنا من ملاحظاته وتوجيهاته كثيرا.. كانت فرصة أيضا أن نلتقى أساتذة أجلاء: مصطفى مشهور، وعباس السيسى، وفرج النجار، والدكتور مناع القطان وغيرهم.. رحمهم الله جميعا. 4- مكتب الإرشاد العام: انتهت رحلة الحج وعدنا إلى القاهرة، وكان لنا أن نستعد للسفر إلى سويسرا ومنها إلى ألمانيا، كان الأستاذ عمر -رحمه الله- قد سبق إلى سويسرا يرافقه الأخ إبراهيم شرف، ذو الشهامة والأريحية العالية. وفى شقة الأخ يوسف ندا بمدينة لوجانو وقفت فى الشرفة أشاهد مناظر الطبيعة الساحرة: البحيرات، والجبال، والخضرة.. كنت مذهولا مأخوذا بجمالها وروعتها.. قلت لأخى إبراهيم: كيف ستكون الجنة إذن؟ أتمنى أن أبقى هنا طول حياتى.. قال الأخ إبراهيم: ابْقَ كما تحب أما أنا فأريد أن أعود إلى أهلى وأولادى، وكان -رحمه الله- موجودا بسويسرا منذ أكثر من ثلاثة أسابيع.. التقيت إخوة من سوريا والأردن جاؤوا للاطمئنان على صحة الأستاذ عمر ومدارسة بعض القضايا الإسلامية والقومية. 5- المشكلات السورية: كانت مأساة، أو بالأحرى، مجزرة حَمَاة التى وقعت فى 2 فبراير من عام 1982، ما زالت ساخنة، تطل برأسها. حكى لى بعضهم أن ما لا يقل عن خمسة وعشرين ألفا من أهل حَمَاة، قُتلوا عن طريق القصف بالمدفعية، والطائرات المروحية، والاجتياح العسكرى، فضلا عن الموت تحت جنازير الدبابات والمدرعات.. وحسب تقرير اللجنة السورية لحقوق الإنسان فقد بلغ عدد الضحايا ما بين ثلاثين وأربعين ألفا، جُلُّهم من المدنيين.. ويقول روبرت فيسك إن عدد الضحايا كان عشرة آلاف تقريبا، فى حين ذكرت جريدة «الإندبندنت» أن العدد يصل إلى عشرين ألفا، ديسوا تحت جنازير الدبابات والآليات. لقد وصفت الصحافة العالمية آنذاك مجزرة حَمَاة بأنها أبشع مجزرة فى التاريخ الحديث، حيث غدت حَمَاة، المدينة التاريخية، على مدى شهر كامل، خرائب وأطلالا مُدمَّرة.. الدماء والأشلاء فى كل مكان وعشرات الألوف من أهل البلدة فى السجون، ومئات الألوف من المطلوبين! ولم يكن أحد ممن بقى حيا يستطيع أن يخرج من بيته إلا كما يخرج الذئب ليلا من مخبئه!! وعقب هذه المأساة تشتت إخوان سوريا فى جميع أقطار الأرض، وذاقوا -ولا يزالون- من وراء ذلك الويلات، فقد ظل النظام السورى يتابعهم ويطاردهم ويضيِّق عليهم.. يكفى القانون 49 لسنة 1980 الذى ينص فى مادته الأولى على: «يعتبر مجرما ويعاقَب بالإعدام كل منتسب إلى تنظيم جماعة الإخوان المسلمين». ورغم المعاناة الشديدة والآلام التى تحملها الإخوان السوريون وعائلاتهم، عبر ثلاثة عقود، فإنهم لم يستجيبوا لمحاولات الاحتواء أو الاستقطاب التى جرت من بعض الأنظمة ضد النظام السورى. مسألة الانتماء أو التنسيق مع جبهة الخلاص كان لى رأى فيها، وقد أعلنته، وأحمد الله تعالى أن إخوان سوريا قد استجابوا وأعلنوا خروجهم منها، وأقول: لا بد أن يفتح النظام السورى ذراعيه لكل أبناء سوريا وعلى رأسهم الإخوان المسلمون، ولا بد لهذا القانون اللعين، أقصد القانون 49، أن يتم إلغاؤه حتى يستطيع الإخوان السوريون وغيرهم من الفصائل السياسية الأخرى أن يسهموا بجهدهم وطاقاتهم فى بناء سوريا. وأخيرا، قامت الثورة فى سوريا ضد القمع والقهر، وطلبا للحرية والعيش فى عزة وكرامة.. لكن النظام السورى لا يتعلم، ولا يريد أن يتعلم، وها هو يمارس شتى صنوف القمع والبطش والتنكيل والقتل والسحل.. لقد انتهى عهد هذا النظام، ولا مجال للعودة إلى الوراء، وبقى أن تستمر الثورة السلمية على نقائها وطهرها إلى أن يتحقق لها ما تريد. 6- القضية الفلسطينية: كانت القضية الفلسطينية -وما زالت- هى القضية المحورية لدى الإخوان المسلمين.. سواء على مستوى مكتب الإرشاد العام، أو المكاتب التنفيذية فى الأقطار، أو الإخوان فى كل مكان.. ولا أحد يستطيع أن ينكر جهادهم فى فلسطين، وأن قرار حل الجماعة أيام النقراشى فى 9/12/1948، كان أساسه القضية الفلسطينية بضغط من الدول الكبرى. إن القضية الفلسطينية هى القضية المركزية عند العرب والمسلمين ويمكن لها أن تلعب الدور الرئيسى فى وحدة العرب، لكن ذلك يُوضع دونه عقبات كثيرة بعضها محلى، وبعضها الآخر إقليمى ودولى. سوف يظل الكيان الصهيونى هو العدو الأول والثانى والأخير للعرب والمسلمين، فهو كيان مغتصب لأرض العروبة والإسلام -أرض فلسطين- علاوة على أنه يمثل الخطر المستمر والدائم الذى يهدد الأمن الوطنى المصرى والقومى العربى، ولن يزول هذا الخطر إلا باتباع استراتيجية المقاومة، لا غيرها. هذه هى اللغة التى تفهمها عصابات بنى صهيون، أما مفاوضات الاستسلام فلن تصل بنا إلى شىء، اللهم إلا مزيدا من التهام ما بقى من الأرض الفلسطينية تحت مطرقة الاستيطان، فضلا عن الإجراءات الدؤوب التى تجرى على قدم وساق لتهويد القدس ومحاولات هدم المسجد الأقصى المبارك. واجب على الدول العربية والإسلامية، أنظمة وشعوبا، أن تدرك جيدا أن المشروع الأمريكى الصهيونى يستهدف تذويب هويتنا، وإفساد أخلاقنا، وسلب خيراتنا والقضاء على خصوصيتنا الثقافية، وأن مواجهته على جميع الأصعدة والمستويات، تتطلب فى الأساس دعم المقاومة فى فلسطين، ولبنان، والعراق، لأنها تمثل حائط الصد وخط الدفاع الأول فى هذه المواجهة. إن الصراع بيننا وبين العدو الصهيونى ليس صراع حدود، لكنه صراع وجود. ليس صراعا سياسيا فحسب، لكنه صراع حضارى بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ. وفى تصورى أنه يجب أن يتم تنسيق وتعاون بين مثلثين أحدهما يتضمن مصر والسعودية وسوريا، وثانيهما يشمل مصر وتركيا وإيران، هذان المثلثان يمكنهما التعامل بشكل أكثر فاعلية مع كل الملفات العالقة فى المنطقة، ودون هذا التصور سوف تظل الدول العربية والإسلامية تضرب فى تيه، غارقة فى مشكلاتها الحدودية، والعرقية، والطائفية، والمذهبية، فضلا عن استمرار تأزم أوضاعها الداخلية، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وحضاريا. إن هناك فراغا موجودا لا يمكن تركه هكذا لدول الغرب والصهاينة يمرحون فيه ويعربدون دون أدنى مقاومة.
المصدر: التحرير
وأنا جالس فى ساحة الكعبة، بعد الطواف والصلاة، تذكرت أختا فاضلة تدعى سلمى تعمل فى مدرسة «حراء» بأسيوط، وكيف أن زوجتى حمَّلتنى مسؤولية تزويجها، فقد تزوجت كل الأخوات ما عدا الأخت سلمى، خصوصا أنها حريصة على أن تتزوج واحدا من الإخوان.. تذكرت ذلك فدعوت الله مخلصا أن يرزقها بزوج صالح من شباب الإخوان، ألححت فى الدعاء وسألت الله تعالى أن يجبر خاطرى. مشيت وإخوانى على أقدامنا المسافة من مكة إلى مِنى، وفى صبيحة يوم عرفة انطلقنا فى حافلة حتى نصل إليها ونحن فى راحة تمكننا من الوقوف بعرفة على الوجه الأمثل، من حيث قراءة القرآن والذكر والدعاء والاستغفار والابتهال إلى الله تعالى.. لقد رأيت بعض الحجاج ينامون سويعات فى هذا اليوم، أو يقضون وقتهم فى الطعام والشراب والمزاح والهزل، غافلين عن أهمية اليقظة الكاملة والانتباه التام فى هذا اليوم العظيم الذى يتنزل الله فيه على عباده ويباهى بهم الملائكة. عند الغروب بدأنا تحركنا سيرا على الأقدام إلى مزدلفة، وعندها صلينا المغرب والعشاء جمعًا، ونمنا بعض سويعات.. قمنا وتجهزنا وجمعنا حصوات الرمى، صلينا الفجر، وبعدها استكملنا المسير إلى مِنى، وأنا فى طريقى إلى رمى جمرة العقبة، وكان الزحام شديدا كأنه يوم الحشر، سمعت صوتا ينادينى باسمى.. التفتُّ فإذا بصاحب الصوت يمد إلىّ يده وكان قريبا منى، كان الأخ جمال محروس المعيد بكلية صيدلة أسيوط من شباب الإخوان الذين خرجوا من مصر عقب اعتقالات سبتمبر 1981، واستقر فى الرياض، تعانقنا فى وسط هذا الزحام، ومضينا معًا إلى جمرة العقبة. قال لى: لقد دعوت الله تعالى أمام الكعبة وفى عرفة أن أراك، وقد استجاب الله تعالى دعائى.. سألته: جمال.. هل تزوجت؟ قال: لا.. قلت: إذن عندى لك عروس صالحة.. قال: أوَتفكر لى؟ قلت: نعم.. قال: أوَترضى هى بى؟ قلت لن أجد أحدا خيرا لك منها، ولا أحدا خيرا لها منك.. قال: من هى؟ قلت: الأخت سلمى.. فلقد سألت الله تعالى أن يرزقها زوجا صالحا.. وأنت هذا الرجل.. قال: إذن على بركة الله.. سوف أحاول النزول بعد الحج إلى أسيوط، وإلا فإننى سأبعث بتوكيل إلى والدى بأسيوط ليتم العقد.. قلت: الله على ما نقول وكيل. حينما نزلت بعد الحج إلى أسيوط قمت بالاتصال بالأخت الفاضلة وفاء مصطفى مشهور، وأفضيت إليها بالأمر على أن تنقل الرسالة إلى الأخت سلمى، وقد قامت بالفعل بزيارة الأخت سلمى وتحدثت معها فى أمر الاقتران بالأخ جمال محروس فوافقت، ولم يستطع الأخ جمال النزول إلى أسيوط، وأرسل إلى والده بالتوكيل لكى يقوم بعقد الزواج نيابة عنه، وتم ذلك بالفعل فى غضون أسابيع قليلة، وسافرت الأخت سلمى إلى الأخ جمال وبَنَى بها بمكة المكرمة، ورزقه الله تعالى منها ذرية صالحة، وأسأل الله تعالى أن يبارك فيهما وفى أولادهما وأن يسترنا وإياهم جميعا فى الدنيا والآخرة. القارئ العزيز.. إن دعوة مخلصة تخرج من قلبك فى لحظة من لحظات النقاء والصفاء لا بد أن تُفتح لها أبواب السماء.. ألم يقل ربنا جل وعلا: «ادعونى أستجب لكم»؟ أنهينا مناسك الحج وذهبنا إلى المدينة المنورة لزيارة الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم). فى هذه المرة حرصنا على رؤية المزارات المختلفة، الخندق حيث نَصَرَ الله عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، وحِصن كعب بن الأشرف ذلك اليهودى اللئيم الفاجر. وفى طريق عودتنا إلى مكة وقفنا طويلا عند المكان الذى جرت فيه غزوة بدر الكبرى، تلك المعركة الفاصلة فى تاريخ الإسلام، رأينا العُدوة الدنيا والعُدوة القصوى ومسجد التعريشة، فى المكان الذى اتخذه أهل بدر للنبى (صلى الله عليه وسلم) لإدارة المعركة.. نزلت إلى بئر بدر.. للأسف وجدتها حفرة مهجورة خالية من الماء، لا علامة ولا إشارة. كان الحاج محمود شكرى -رحمه الله- مسؤولا عن رحلة الحج، وأعتقد أننا استفدنا من ملاحظاته وتوجيهاته كثيرا.. كانت فرصة أيضا أن نلتقى أساتذة أجلاء: مصطفى مشهور، وعباس السيسى، وفرج النجار، والدكتور مناع القطان وغيرهم.. رحمهم الله جميعا. 4- مكتب الإرشاد العام: انتهت رحلة الحج وعدنا إلى القاهرة، وكان لنا أن نستعد للسفر إلى سويسرا ومنها إلى ألمانيا، كان الأستاذ عمر -رحمه الله- قد سبق إلى سويسرا يرافقه الأخ إبراهيم شرف، ذو الشهامة والأريحية العالية. وفى شقة الأخ يوسف ندا بمدينة لوجانو وقفت فى الشرفة أشاهد مناظر الطبيعة الساحرة: البحيرات، والجبال، والخضرة.. كنت مذهولا مأخوذا بجمالها وروعتها.. قلت لأخى إبراهيم: كيف ستكون الجنة إذن؟ أتمنى أن أبقى هنا طول حياتى.. قال الأخ إبراهيم: ابْقَ كما تحب أما أنا فأريد أن أعود إلى أهلى وأولادى، وكان -رحمه الله- موجودا بسويسرا منذ أكثر من ثلاثة أسابيع.. التقيت إخوة من سوريا والأردن جاؤوا للاطمئنان على صحة الأستاذ عمر ومدارسة بعض القضايا الإسلامية والقومية. 5- المشكلات السورية: كانت مأساة، أو بالأحرى، مجزرة حَمَاة التى وقعت فى 2 فبراير من عام 1982، ما زالت ساخنة، تطل برأسها. حكى لى بعضهم أن ما لا يقل عن خمسة وعشرين ألفا من أهل حَمَاة، قُتلوا عن طريق القصف بالمدفعية، والطائرات المروحية، والاجتياح العسكرى، فضلا عن الموت تحت جنازير الدبابات والمدرعات.. وحسب تقرير اللجنة السورية لحقوق الإنسان فقد بلغ عدد الضحايا ما بين ثلاثين وأربعين ألفا، جُلُّهم من المدنيين.. ويقول روبرت فيسك إن عدد الضحايا كان عشرة آلاف تقريبا، فى حين ذكرت جريدة «الإندبندنت» أن العدد يصل إلى عشرين ألفا، ديسوا تحت جنازير الدبابات والآليات. لقد وصفت الصحافة العالمية آنذاك مجزرة حَمَاة بأنها أبشع مجزرة فى التاريخ الحديث، حيث غدت حَمَاة، المدينة التاريخية، على مدى شهر كامل، خرائب وأطلالا مُدمَّرة.. الدماء والأشلاء فى كل مكان وعشرات الألوف من أهل البلدة فى السجون، ومئات الألوف من المطلوبين! ولم يكن أحد ممن بقى حيا يستطيع أن يخرج من بيته إلا كما يخرج الذئب ليلا من مخبئه!! وعقب هذه المأساة تشتت إخوان سوريا فى جميع أقطار الأرض، وذاقوا -ولا يزالون- من وراء ذلك الويلات، فقد ظل النظام السورى يتابعهم ويطاردهم ويضيِّق عليهم.. يكفى القانون 49 لسنة 1980 الذى ينص فى مادته الأولى على: «يعتبر مجرما ويعاقَب بالإعدام كل منتسب إلى تنظيم جماعة الإخوان المسلمين». ورغم المعاناة الشديدة والآلام التى تحملها الإخوان السوريون وعائلاتهم، عبر ثلاثة عقود، فإنهم لم يستجيبوا لمحاولات الاحتواء أو الاستقطاب التى جرت من بعض الأنظمة ضد النظام السورى. مسألة الانتماء أو التنسيق مع جبهة الخلاص كان لى رأى فيها، وقد أعلنته، وأحمد الله تعالى أن إخوان سوريا قد استجابوا وأعلنوا خروجهم منها، وأقول: لا بد أن يفتح النظام السورى ذراعيه لكل أبناء سوريا وعلى رأسهم الإخوان المسلمون، ولا بد لهذا القانون اللعين، أقصد القانون 49، أن يتم إلغاؤه حتى يستطيع الإخوان السوريون وغيرهم من الفصائل السياسية الأخرى أن يسهموا بجهدهم وطاقاتهم فى بناء سوريا. وأخيرا، قامت الثورة فى سوريا ضد القمع والقهر، وطلبا للحرية والعيش فى عزة وكرامة.. لكن النظام السورى لا يتعلم، ولا يريد أن يتعلم، وها هو يمارس شتى صنوف القمع والبطش والتنكيل والقتل والسحل.. لقد انتهى عهد هذا النظام، ولا مجال للعودة إلى الوراء، وبقى أن تستمر الثورة السلمية على نقائها وطهرها إلى أن يتحقق لها ما تريد. 6- القضية الفلسطينية: كانت القضية الفلسطينية -وما زالت- هى القضية المحورية لدى الإخوان المسلمين.. سواء على مستوى مكتب الإرشاد العام، أو المكاتب التنفيذية فى الأقطار، أو الإخوان فى كل مكان.. ولا أحد يستطيع أن ينكر جهادهم فى فلسطين، وأن قرار حل الجماعة أيام النقراشى فى 9/12/1948، كان أساسه القضية الفلسطينية بضغط من الدول الكبرى. إن القضية الفلسطينية هى القضية المركزية عند العرب والمسلمين ويمكن لها أن تلعب الدور الرئيسى فى وحدة العرب، لكن ذلك يُوضع دونه عقبات كثيرة بعضها محلى، وبعضها الآخر إقليمى ودولى. سوف يظل الكيان الصهيونى هو العدو الأول والثانى والأخير للعرب والمسلمين، فهو كيان مغتصب لأرض العروبة والإسلام -أرض فلسطين- علاوة على أنه يمثل الخطر المستمر والدائم الذى يهدد الأمن الوطنى المصرى والقومى العربى، ولن يزول هذا الخطر إلا باتباع استراتيجية المقاومة، لا غيرها. هذه هى اللغة التى تفهمها عصابات بنى صهيون، أما مفاوضات الاستسلام فلن تصل بنا إلى شىء، اللهم إلا مزيدا من التهام ما بقى من الأرض الفلسطينية تحت مطرقة الاستيطان، فضلا عن الإجراءات الدؤوب التى تجرى على قدم وساق لتهويد القدس ومحاولات هدم المسجد الأقصى المبارك. واجب على الدول العربية والإسلامية، أنظمة وشعوبا، أن تدرك جيدا أن المشروع الأمريكى الصهيونى يستهدف تذويب هويتنا، وإفساد أخلاقنا، وسلب خيراتنا والقضاء على خصوصيتنا الثقافية، وأن مواجهته على جميع الأصعدة والمستويات، تتطلب فى الأساس دعم المقاومة فى فلسطين، ولبنان، والعراق، لأنها تمثل حائط الصد وخط الدفاع الأول فى هذه المواجهة. إن الصراع بيننا وبين العدو الصهيونى ليس صراع حدود، لكنه صراع وجود. ليس صراعا سياسيا فحسب، لكنه صراع حضارى بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ. وفى تصورى أنه يجب أن يتم تنسيق وتعاون بين مثلثين أحدهما يتضمن مصر والسعودية وسوريا، وثانيهما يشمل مصر وتركيا وإيران، هذان المثلثان يمكنهما التعامل بشكل أكثر فاعلية مع كل الملفات العالقة فى المنطقة، ودون هذا التصور سوف تظل الدول العربية والإسلامية تضرب فى تيه، غارقة فى مشكلاتها الحدودية، والعرقية، والطائفية، والمذهبية، فضلا عن استمرار تأزم أوضاعها الداخلية، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وحضاريا. إن هناك فراغا موجودا لا يمكن تركه هكذا لدول الغرب والصهاينة يمرحون فيه ويعربدون دون أدنى مقاومة.
المصدر: التحرير
رائع جدا
ردحذفلك الله يا مصر
ردحذفThank you for sharing this
ردحذفاللهم احفظ مصر واهل مصر
ردحذف