فذلكة فى أصول ظاهرة الفشْر الثورى
بحثت فى المعجم عن معنى لفظ معَّار- الشائع فى العامية المصرية، فاكتشفت أن «المعَار» - فى العربية الفصحى - هو الحصان الذى يحيد براكبه عن الطريق، وبحثت عن معنى مرادفها الذى يتداوله المصريون، وهو «الفشّار» فاكتشفت أنها كلمة عربية فصيحة بمعنى الشخص كثير الكذب، فاطمأنيت إلى أن «المعر» و«الفشر» من لغة أمتنا الواحدة ذات الرسالة الخالدة، وليست مستوردة - والعياذ بالله - من قواميس الأعاجم أو من لغات الفرنجة.
و«المعر» فى مصطلحات علم النفس، هو «الكذب الادعائى» و«المعّار» أو «الفشار» فى العامية المصرية شخص يدمن تأليف الأكاذيب عن نفسه، ويذيعها بين الناس، على سبيل التفاخر، أو لأن لديه شعوراً بالنقص تجاههم، يدفعه للتظاهر أمامهم بأنه لا يقل عنهم شجاعة أو ثراء أو علماً أو ثورية.. على سبيل التعويض عن نقصه، وهو شائع بين الأطفال للتعويض عن إحساسهم بالنقص تجاه الكبار ويشيع بين الأنداد، حين يريد أحدهم أن يميز نفسه عن الآخرين، أو أن يدعى لنفسه ميزة توازن ما لديهم من مزايا.
والناس تتعامل مع بعضها البعض، على أساس أن هناك نسبة مشروعة من الفشر فيما يقولونه عن أنفسهم.. وفى أعقاب أول لقاء تعارف بينها وبين جيرانها الجدد فى خان الخليلى، نبهت الست دولت ابنها أحمد أفندى عاكف - بطل رواية «خان الخليلى» لنجيب محفوظ - إلى أنها قدمت نفسها لهن باعتبارها ابنة لأسرة من أعيان المنصورة، فى حين أنها أسرة من صغار المزارعين، وبأن ابنها أحمد أفندى رئيس قسم بوزارة الأشغال بينما كان مجرد كاتب بالقلم، وأن زوجها كان رئيس إدارة بالوزارة نفسها قبل تقاعده، فى حين أنه أحيل إلى التقاعد بسبب إضاعته لعهدة مصلحية وهو موظف بالدرجة الثامنة. وحذرته من أن يخطئ حين يقدم نفسه وأسرته لأزواجهن فيذكر الحقيقة.
وفى تبريرها لهذه الأكاذيب قالت إنها تعلم أن الجميع كن يفشرن فيما قلن عن أنفسهن وعن أزواجهن، وكن واثقات بأنها هى الأخرى تمعر عليهن فيما قالت عن نفسها وابنها وزوجها، وأنها لو كانت قد قالت الحقيقة، لما صدقنها، ولخصمن من رأس المال، وليس لما أضافته إليه من أرباح.
وكنت تلميذاً فى السنة الثالثة، حين أوقعنى الفشر فى شرّ أعمالى، إذ لم يكن أخى الأكبر - الذى إلى المدرسة ذاتها - يكف، عن رواية بطولاته الثورية فى التصدى لطغيان المدرسين.. ويجابههم دائما بأن هناك مادة فى قانون التعليم، هى المادة 88 تحظر على المدرسين ضرب التلاميذ.
ولم أكن أعرف المصدر الذى استمد منه أخى هذه المعلومات، ولكنى صدقت فشره، الذى ظل يواصله بعد أن أصبحت تلميذاً معه فى المدرسة نفسها، وتعرفت على المدرسين الذين لم يكن يمر يوماً دون أن يعود من المدرسة ليروى لى عمن أوقعه سوء حظه منهم، بين براثنه الثورية، فلقنه - أمام تلاميذ الفصل جميعهم - درساً فى المادة 88 من قانون التعليم.
وجاء اليوم الذى كان على أن أتلقن درساً فى عاقبة الفشر الثورى. وكانت الحصة هى حصة «سعيد أفندى» مدرس الأشغال، الذى ضبطنى أتثاءب، فلفت نظرى إلى عدم تكرار ذلك، ولكننى لم أهتم، إما لأننى لم أستطع أن أتحكم فى رغبتى فى التثاؤب، أو لأننى كنت فى أعماقى أتمنى أن أدخل فى مواجهة مع «سعيد أفندى» لأثبت أن فى السويداء ثوارا، وأن فى الفصل تلميذاً يعرف المادة 88 من قانون التعليم، ويستطيع أن يستند إليها ليتحدى مدرس الأشغال الذى كان يسرف فى استخدام مسطرته، ويثير الرعب فى نفوس تلاميذ الفصل مع أنه - طبقاً لما سمعته من فشر أخى ومعره - كان يتصرف كالقطة مع طلاب السنة الرابعة وفى طليعتهم الأخ العزيز.
وحدث ما كان لابد وأن يحدث: كررت التثاؤب.. وكرر «سعيد أفندى» تحذيره.. ولما كررته للمرّة الثالثة، أمرنى بالتقدم نحوه، وبمد كفى لكى يضربنى بالمسطرة، وبحماقة ثورية نادرة المثال، وصلف وغرور، أعلنت بأننى أرفض العقاب البدنى.
وعلى عكس كل النهايات التى كان أخى يختتم بها مروياته عن مغامراته الثورية ضد المدرسين، لم يتحول «سعيد أفندى» إلى قطة، ولم يشعر بالخوف من تهديداتى بأن أشكوه إلى وزير المعارف طه باشا حسين، بل استفزه ما قلته، فانهال على ضرباً بالمسطرة على كل مكان يطوله من جسدى، وهو يصيح فى غضب هيستيرى: افتح إيدك يا ابن «.......». وككل ثورى مستجد، أصررت على موقفى، واعتبرت التراجع مسألة لا تليق بكرامتى، وشبكت ذراعى حول صدرى، فى إعلان صريح بأننى لن أفتح كفى للضرب حتى لو مت من الضرب!
وحين التقيت أخى فى فسحة الغداء، تأمل فى وجهى المتورم من أثر الصفعات واللكمات، وعندما رويت له ما حدث.. قالى لى:
- أنت صدقت.. أنا كنت بافشر عليك!
ومن يومها وأنا أبحث فى القاموس - وفى الواقع - عن أصل لفظ فشار.. وعن أصول ظاهرة المعر الثورى!
المصدر : اليوم السابع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق