الأحد، 25 ديسمبر 2011

من الثورة السلمية إلى العنف الفوضوي!




السيد ياسين

هناك إجماع من المحللين السياسيين في مصر والخارج على أن ثورة 25 يناير قدمت نموذجاً فريداً للثورة السلمية التي نجحت في إسقاط نظام من أعتى النظم السياسية السلطوية.

غير أن المشكلة قامت حين حاول قادة النظام السياسي وعلى رأسهم الرئيس السابق مقاومة المظاهرات السلمية الحاشدة باستعمال القوة المفرطة. وقد أدى ذلك إلى وفاة مئات الشهداء وإصابة آلاف الثوار.

ومن هنا يمكن القول إن العنف السلطوي هو الذي أدى فيما بعد إلى ظهور صور متعددة من العنف الثوري المشروع، لاستكمال الثورة وفرض مطالبها العادلة في سياق اتسم بالمقاومة الشديدة سواء من قبل بقايا النظام القديم، أو من قبل القوى السياسية التقليدية.

ومع كل ذلك فإن القوى الشبابية الثورية التي -للأسف الشديد- تشرذمت وتفككت بعد نجاح الثورة في إسقاط النظام، ظلت مصرة على ممارسة الشرعية الثورية بطريقة سلمية من خلال المظاهرات الحاشدة والمليونيات الكبرى في ميدان التحرير.

غير أن ممارسة هذه القوى الشبابية للشرعية الثورية وبصورة سلمية، تمت بغير أن تكتمل الشروط الموضوعية الضرورية لهذه الممارسة. وأول شرط من هذه الشروط هو أن من قاموا بالثورة -أو طلائعها الثورية على الأقل- لم يتسلموا الحكم ويحكموا مباشرة من غير وصاية من أي مؤسسة، لكي ينفذوا مطالب الثورة.

إلا أن غياب هذا الشرط الموضوعي المهم كان نتيجة لازمة لافتقار الثورة إلى قيادة. وقد قيل إن غياب القيادة كان أحد أسباب نجاح الثورة.

ولو وافقنا على هذا التفسير مع تحفظي الشديد عليه، إلا أنه كان ينبغي أن تتحد طلائع الثورة من الشباب في جبهة واحدة تضم بين صفوفها المثقفين والناشطين السياسيين الذين أيدوا الثورة منذ اندلاعها، حتى ولو لم يشاركوا فيها أصلاً. وذلك لتحقيق هدف أساسي هو السيطرة على عملية اتخاذ القرار الثوري الذي كان ينبغي أن يتجه -أول ما يتجه- إلى إسقاط المؤسسات السياسية التقليدية، مثل مجلس الشعب ومجلس الشورى، بكل المبادئ البالية التي قامت عليها، وأخطرها جميعاً أن صندوق الانتخابات ونتائجه هي المعبرة عن الإرادة الشعبية.

وقد يكون هذا صحيحاً في الدول المتقدمة التي تكاد تنعدم فيها معدلات الأمية ولا يوجد فيها فقراء بالملايين، ولا يشيع فيها الوعي الزائف نتيجة دعايات لتيارات دينية معتدلة كانت أو متشددة، تزعم أن لديها الحلول "الدينية" لكل المشكلات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تواجهها البلاد.

غير أن مسار الثورة سرعان ما تعثر نتيجة غياب هذه الجبهة الثورية الديمقراطية التي أشرنا إليها، ونظراً لأن القوى السياسية التقليدية التي لم تشارك في الثورة أصلاًً كالحركة السلفية تحديداً، أو التي شاركت فيها بمعدلات قليلة في الأيام الأخيرة للثورة كـ"الإخوان المسلمين"، سرعان ما قفزت على قطار الثورة.

وكان يمكن أن يعتدل مسار الثورة لو كانت قد توافرت منذ البداية رؤية استراتيجية واضحة لمستقبل مصر، تبتدع على ضوئها المؤسسات السياسية الثورية وغير التقليدية الكفيلة بتحقيق أهدافها. غير أن ذلك لم يحدث، ونشأت نقاشات عقيمة دارت حول الدستور أولاً أو الانتخابات أولاً.

وقد انقسم الثوار بين من يرفضون هذا المسار أصلاً لأسباب متعددة، وبين من قبلوا به. ودخل العشرات من شباب الثورة الانتخابات في مرحلتها الأولى وفشل العديد منهم وسقطوا نتيجة كون معرفتهم بالشارع شبه معدومة، ولأن الشارع المصري له لغة خاصة على من يرغب في التفاعل معه أن يتقنها.

ومن هنا أدركت بعض فصائل الثورة أنها سرقت منهم، وأن مسار الانتخابات التقليدية لم يكن هو المسار الأمثل، ومن هنا نشأت فكرة أساسية هي أن "الشرعية السياسية" هي لميدان التحرير، وليست لصندوق الانتخابات، الذي لا تعبر نتائجه أيّاً كانت عن الإرادة الشعبية. وعلى ذلك أقيمت مليونيات حاشدة في ميدان التحرير رفعت شعارات متعددة من ضرورة تسليم المجلس الأعلى للقوات المسلحة للسلطة فوراً إلى مجلس مدني انتقالي، ثار الخلاف الشديد حول طريقة اختياره، إلى ضرورة القصاص ممن مارسوا العنف ضد الثوار مما أدى إلى سقوط مئات الشهداء، وصولاً إلى ضرورة تطهير كل أجهزة الدولة من فلول النظام السابق.

وسرعان ما دبت الفوضى العارمة في ميدان التحرير! وذلك لأن بعض فصائل الثوار ظنت وهماً أنها يمكن أن تدير شؤون البلاد من الشارع. وهكذا اختلطت المطالبات الجادة ببعض الممارسات الهزلية مثل تشكيل الوزارات من أول اختيار اسم معين لرئيس الوزارة إلى اختيار أسماء أخرى للوزراء، أو اقتراح تسليم السلطة إلى مجلس مكون من عدد من المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية.

ولم تكن هذه الممارسات هي المظهر الوحيد للفوضى العارمة في ميدان التحرير ولكن أخطر منها اندساس شرائح اجتماعية متعددة، لا علاقة لها أصلاً بالثورة بين صفوف الثوار.

وسرعان ما قامت المعارك الدموية بين قوات الأمن وجماعات الشباب في الميدان، ومارست فيها هذه القوات القوة المفرطة في تفريقهم مما أدى إلى سقوط مئات الشهداء وإصابة الآلاف.

حدث ذلك في ميدان التحرير وفي معركة "ماسبيرو" وفي أحداث "شارع محمد محمود"، التي قامت أساساً لأن شباب الثوار حاولوا اقتحام مبنى وزارة الداخلية وهذا في حد ذاته خطأ جسيم، إلى أن وصلنا أخيراً إلى الأحداث المؤسفة أمام مجلس الشعب.

وفيما يتعلق بهذه الأحداث الأخيرة التي قامت لمنع الدكتور "الجنزوري" من الدخول لمجلس الشعب، بالإضافة إلى مطالب أخرى متعددة لم نجد اعتراضاً على هذا المسلك الفوضوي من قبل المثقفين والناشطين السياسيين الذين مارسوا منذ قيام الثورة للأسف الشديد الموافقة الكاملة على كل ممارسات شباب الثورة مهما كان بعضها يعد انحرافاً عن المسلك الثوري الحقيقي، أو ممارسة للفوضى باسم الثورة، مثل قطع الطرق أو إغلاق المرور في ميدان التحرير.

وهكذا لم يقوموا بترشيد الخطاب السياسي لشباب الثورة، ولا ساعدوهم على إعادة الثورة إلى مسارها الصحيح، بدلاً من الاندفاع تجاه نفق الفوضى المظلم.

وقد قام الإعلام المصري بكل صوره للأسف بدور تخريبي في التحريض على المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ليس من قبل نقد بعض قراراته وهذا أمر مشروع، ولكن من ناحية المبدأ نتيجة الشعار الفوضوي الشهير "يسقط حكم العسكر"، والدعوة إلى تسليم السلطة للمدنيين بدون تحديد من هم وكيف يمكن اختيارهم؟

وبذلك وقعت البلاد بين مطرقة الثورة التي انحرفت عن مسارها وسندان العنف الفوضوي، الذي أدى إلى إسالة دماء المئات، وهدم الصروح الثقافية لمصر التي كانت تضم تراث التاريخ المصري الحديث.

وهكذا يبدو المشهد العبثي الدائر في مصر الآن مواجهات دامية بين قوات الجيش وحشود جماهيرية مصممة على استخدام العنف وإحداث الفوضى من ناحية، وانتخابات المرحلة الثانية بكل نتائجها التي تؤكد صعود التيارات الدينية من ناحية أخرى.

ولكن، كيف يمكن الخروج من هذا المأزق التاريخي، وهل هناك من سبيل للتوفيق بين الشرعية الثورية والشرعية الديمقراطية؟
سؤال سيجيب عليه المستقبل القريب!

المصدر : الاتحاد الامارتية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق