المصدر : Dar Al Hayat - مدنية الدولة المصرية أم المرجعية الإسلامية؟
محمد شومان *
أطلق الانهيار الكبير لبنية الدولة الاستبدادية البوليسية في مصر حرية الفكر والعمل، على نطاق غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث، وباستثناء بعض المحظورات في شأن الجيش والأديان، يبدو المجال العام في مصر حراً من كل قيد، لكن الإشكالية التي تهدد ازدهار وفاعلية المجال العام هي الانقسام والاستقطاب الثقافي والسياسي بين أنصار الدولة المدنية والدولة ذات المرجعية الإسلامية.
هذا الانقسام ليس جديداً في تاريخ مصر والدول العربية، فقد ظهرت بوادره في مصر مع نهضة محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر، بين أنصار التراث والتجديد، واتخذ تجليات مختلفة وتسميات متعددة مثل القديم والحديث، والأصالة والمعاصرة، والوافد والموروث، والأصالة والتغريب، والإسلام والحداثة. وتحت كل هذه العناوين وغيرها دار جدال ونقاش موسّعان طاولا الفكر والثقافة والسياسة والتعليم، واتسما بالاستقطاب الشديد بين فريقين يسعى كل منهما لنفي أو استبعاد الآخر. من هنا تعثرت لأسباب أيديولوجية وسياسية محاولات التوصل إلى صيغة تعايش مرضٍ تحقق معادلة تفاعل الفكر العربي المعاصر مع التراث وفق مستجدات العصر وتحدياته.
في القلب من دائرة الانقسام والاستقطاب الثقافي والفكري تبرز قضايا السياسة والحكم، والموقف من الغرب الذي يحوز التقدم العلمي ويقود الحضارة الحديثة ويمارس أنماطاً مختلفة من الديموقراطية في الحكم وتوزيع الثروة واحترام حقوق الإنسان، وهي أمور تبدو متسقة مع جوهر التراث العربي الإسلامي لكن تبنيها يتعارض مع بعض مكونات التراث الإسلامي كما يهدد هويتنا الثقافية والقيم السائدة في المجتمعات العربية من وجهة نظر قطاعات من النخب والجماهير العربية، ترى في الليبرالية والفصل بين الدين والدولة مؤامرة يديرها الاستعمار الغربي المسيحي الذي يدعم إسرائيل. من هنا يوافق هؤلاء على الديموقراطية بشروط، ويتحفظون على الليبرالية بمعنى التسامح وقبول الآخر، ويرفضون فصل الدين عن الدولة، لكنهم يرفضون الدولة الدينية.
في المقابل، ترى قطاعات من النخب العربية والجماهير أن الديموقراطية والليبرالية والدولة المدنية التي تقوم على القانون والمساواة التامة بين المواطنين لا تتعارض مع التراث العربي الإسلامي، وحتى إذا كان هناك بعض الاختلافات فإن ضرورات الحياة تسمح بالتجديد والاستفادة من تجارب المجتمعات الأخرى في الحكم الرشيد، بخاصة أن الإسلام لا يلزم المسلمين بنظرية محددة في السياسة والحكم.
إرث الانقسام الثقافي والسياسي مفتاح بالغ الأهمية في رصد وفهم طبيعة الحراك السياسي في مصر بعد ثورة 25 يناير، وما يرتبط به من صراع وربما صدام. فجماعة «الإخوان المسلمين» التي تبدو حتى الآن أكبر الرابحين من الثورة تقدم نفسها كقطب جاذب لمعسكر الإسلام السياسي الوسطي الذي يؤمن بالديموقراطية والدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، بينما يقف حزب الوسط على يسار «الإخوان» في المعسكر ذاته بأطروحات تحديثية للإسلام السياسي تؤكد مدنية الدولة بمرجعية الحضارة العربية الإسلامية. أما الجماعات السلفية فتقف على يمين «الإخوان» في معسكر الإسلام السياسي بدعوتها لتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية. وتقدم تصريحات بعض شيوخ الجماعات السلفية مادة دسمة للتدليل على مدى التطرف والغلو في فهم الإسلام وتفسيره، بلغت اقتراح العودة إلى نظام العبيد والرق لحل المشكلات الاقتصادية، علاوة على الخروج للغزو لفرض الجزية أو الحصول على الغنائم من الأعداء!
وبصرف النظر عن الاختلافات في صفوف ممثلي الإسلام السياسي، فإن ثمة معسكراً واحداً يضمهم إلى جانب الطرق الصوفية، وقد عبر هذا المعسكر عن نفسه بقوة أثناء الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي أجريت في آذار (مارس) الماضي، لكن يلاحظ أن هذا المعسكر قابل للانقسام وربما الصدام بين مكوناته، أي أنه اصطفاف غير مستقر ومتحول وفق المصالح والتهديدات المشتركة أو المصالح الخاصة والاختلافات الفقهية. من جانب آخر، فإن غلو وتطرف خطاب بعض الجماعات السلفية يصب في مصلحة جماعة «الإخوان المسلمين»، التي تبدو أكثر اعتدالاً وتسامحاً وتنظيماً مقارنة بالتيار السلفي، خصوصاً أن مواقف الجماعة تؤيد باستمرار المجلس العسكري وتقدم نفسها كبديل وحيد للإسلام السياسي التحديثي المعتدل الذي يمتلك تجربة سياسية وخبرة تنظيمية تمكنها من الحكم أو على الأقل المشاركة في الحكم. لكن يظل اعتدال «الإخوان» مقارنة بتطرف السلفيين أمراً نسبياً، فجماعة «الإخوان المسلمين» تظل في التحليل الأخير مع تطبيق الشريعة الإسلامية، ومع الدولة ذات المرجعية الإسلامية التي يخشى كثير من المصريين – في مقدمهم المسيحيون - أن تكون نسخة معدلة من نماذج الحكم الإسلامي الفاشل في أفغانستان وإيران والسودان، بخاصة أن جماعة «الإخوان» لم تحدد المقصود بالمرجعية الإسلامية للدولة ولم تحسم موقفها من حق المسيحيين في الترشح للرئاسة.
مقابل معسكر جماعات الإسلام السياسي، ثمة اصطفاف مضاد من أنصار الدولة المدنية - إذا جاز التوصيف – ويتكون من مواطنين وأحزاب وجماعات من العلمانيين والليبراليين واليسار وكثير من القوميين ونشطاء حقوق الإنسان وجماعات المرأة، ويفتقر هذا المعسكر العريض إلى التنظيم والموارد والقدرة على التواصل مع الجماهير البسيطة في ريف مصر وحضرها، فضلاً عن غياب المرجعية الفكرية والسياسية المشتركة، ما يثير كثيراً من نقاط الخلاف والصدام بين المنتمين أو المؤيدين لما يطرحه أنصار هذا المعسكر من أفكار في شأن بناء الدولة المصرية في المستقبل وتوجهاتها السياسية والاجتماعية. لكن فرقاء معسكر الدولة المدنية يتفقون على مدنية وديموقراطية الدولة وضرورة تأجيل الانتخابات البرلمانية والبدء بإصدار دستور جديد قبل انتخابات مجلسي الشعب والشورى وانتخابات الرئيس.
والمفارقة أن هذا المعسكر المؤمن بالديموقراطية والليبرالية متهم بنزعته الطائفية حيث يلتف حوله المسيحيون، وهو أمر طبيعي بحكم أن هذا المعسكر يؤمن بالمساواة بين المسلمين والمسيحيين كمواطنين في دولة واحدة. لكن الإشكالية أن غالبية المسيحيين ملتزمة بتوجهات وسياسات الكنيسة وغير قادرة حتى الآن على الاشتراك في العمل العام كمواطنين وليس كرعايا للكنيسة. والمفارقة الثانية أن معسكر الدولة المدنية الذي يؤمن بالديموقراطية والحكم المدني يدعو المجلس العسكري للاستمرار في الحكم لمرحلة انتقالية تستمر لسنة ونصف السنة يمكن خلالها توفير الحد الأدنى من متطلبات الممارسة الديموقراطية مثل استعادة الأمن والاستقرار، وإتاحة حرية التنظيم والعمل النقابي والحزبي، خصوصاً أمام الأحزاب الجديدة، بينما يؤيد معسكر الإسلام السياسي خطة الطريق التي طرحها الجيش والتي تلتزم إجراء انتخابات مجلس الشعب في أيلول (سبتمبر) المقبل، وتسليم الجيش السلطة لرئيس منتخب في كانون الثاني (يناير) المقبل.
موقف معسكر الإسلام السياسي بقيادة «الإخوان» يمكن تفسيره بسهولة في ضوء أنهم أكثر قدرة وخبرة على خوض الانتخابات، وبالتالي في إمكانية تحقيق نصر كبير وسريع، ربما يمكنهم من الهيمنة على البرلمان للمرة الأولى في تاريخ مصر، خصوصاً أنهم يتمتعون بعلاقة جيدة مع المجلس العسكري، لكن يبدو أن حجم ومستوى الانتصارات التي حققتها الجماعة التي كانت محظورة قبل الثورة، قد أربكت حساباتها وأوقعتها في براثن الغرور، فقد أعلنت الجماعة أنها ستنافس في الانتخابات البرلمانية على ربع المقاعد، ثم ارتفعت النسبة إلى الثلث، ثم ارتفعت إلى النصف! وكانت أعلنت أنها لن تقدم مرشحاً للرئاسة، فإذا بالقيادي عبدالمنعم أبو الفتوح يعلن ترشيح نفسه، من دون أن يستقيل أو يقال من الجماعة! وتقدم «الإخوان» بمبادرة غامضة - غير ممكنة عملياً - تدعو أحزاب وقوى الثورة إلى خوض الانتخابات في قائمة واحدة، من دون تحديد لقواعد الاختيار وحصة كل حزب في هذه القائمة الموحدة. في الوقت ذاته نظم «الإخوان» وبعض الجماعات السلفية مؤتمرات جماهيرية مشتركة وأعلنوا عزمهم خوض الانتخابات في قوائم مشتركة.
هكذا طغت مظاهر الانقسام والاستقطاب الثقافي والسياسي على المشهد السياسي حتى وإن لم تعلن عن نفسها صراحة، فمعسكر المرجعية الإسلامية للدولة يؤيد خريطة الطريق التي أعلنها المجلس العسكري، وبالتالي لا يشارك في مؤتمر مصر الأول، ويرفض المشاركة في مؤتمر الوفاق الوطني الذي يهدف لوضع مسودة دستور جديد، كما يرفض الاشتراك في مليونية بعد غد الجمعة، بينما يتخذ معسكر الدولة المدنية الموقف المضاد على طول الخط، ما قد يثير قضية هل الانقسام والاستقطاب الثقافي السياسي هو سبب اختلاف المواقف السياسية بين المعسكرين أم إن اختلاف المواقف والمصالح السياسية هو الذي دفع الطرفين إلى استدعاء إرث الماضي وتوظيف الانقسام والاستقطاب الثقافي السياسي في خوض المعارك السياسية في مرحلة ما بعد الثورة.
ويخوض المعسكران الإسلامي والمدني حروباً كلامية وملاسنات وحملات تشويه متبادل تعمق ولا شك من الخلافات بينهما والأهم تقوض مناخ الثقة المتبادل بينهما، وتبدد كثيراً من طاقة الثورة. من هنا يشك الكثيرون في صدقية التزام الإسلاميين بالديموقراطية والدولة المدنية في حال وصولهم إلى الحكم عبر صناديق الانتخاب، ويقترحون استمرار الجيش كضامن للديموقراطية. وعلى رغم ما يثيره هذا المقترح من إشكاليات إلا أن الإشكالية الأهم هي: هل يمكن إنجاز التحول الديموقراطي في ظل استمرار هذا الاستقطاب والانقسام والذي بدأ يأخذ – سواء بالحق أو بالباطل – أبعاداً طائفية؟ إن هذه الإشكالية جديرة ليس فقط بالتأمل والدرس النظري بل بالحوار الجاد والمثمر بين المعسكرين، فلا مستقبل للديموقراطية والتنمية من دون مشاركة الجميع، ومن دون التوصل إلى توافق وطني عام على شكل الدولة وحقوق وواجبات متساوية لكل المواطنين يتم صوغها في دستور جديد يقبله أبناء مصر من دون تمييز أو تفرقة. وهنا لا بد لأنصار الدولة المدنية من أن يقدموا تأويلاً مقبولاً لماهية وحدود الدولة المدنية والاختلاف بينها وبين علمانية الدولة والتي يرفضها معظم المصريين. في المقابل، لا بد لدعاة الدولة ذات المرجعية الإسلامية أن يحددوا ما المقصود بهذه المرجعية وحدودها وضوابطها بما لا يتعارض مع حقوق المواطنة الكاملة لكل المصريين.
أعتقد أن تأويل الدولة المدنية وتأويل المقصود بالمرجعية الإسلامية، وكذلك تأويل المرجعية الحضارية العربية الإسلامية، سيفضي إلى نوع من الوضوح وربما التقارب بين الفرقاء، لا سيما أن هناك معسكراً وسطياً توافقياً في المجتمع المصري – خسر كثيراً من قوته بسبب مناخ الغلو والاستقطاب – سيدعم ويشجع هذا التقارب.
* كاتب مصري
محمد شومان *
أطلق الانهيار الكبير لبنية الدولة الاستبدادية البوليسية في مصر حرية الفكر والعمل، على نطاق غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث، وباستثناء بعض المحظورات في شأن الجيش والأديان، يبدو المجال العام في مصر حراً من كل قيد، لكن الإشكالية التي تهدد ازدهار وفاعلية المجال العام هي الانقسام والاستقطاب الثقافي والسياسي بين أنصار الدولة المدنية والدولة ذات المرجعية الإسلامية.
هذا الانقسام ليس جديداً في تاريخ مصر والدول العربية، فقد ظهرت بوادره في مصر مع نهضة محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر، بين أنصار التراث والتجديد، واتخذ تجليات مختلفة وتسميات متعددة مثل القديم والحديث، والأصالة والمعاصرة، والوافد والموروث، والأصالة والتغريب، والإسلام والحداثة. وتحت كل هذه العناوين وغيرها دار جدال ونقاش موسّعان طاولا الفكر والثقافة والسياسة والتعليم، واتسما بالاستقطاب الشديد بين فريقين يسعى كل منهما لنفي أو استبعاد الآخر. من هنا تعثرت لأسباب أيديولوجية وسياسية محاولات التوصل إلى صيغة تعايش مرضٍ تحقق معادلة تفاعل الفكر العربي المعاصر مع التراث وفق مستجدات العصر وتحدياته.
في القلب من دائرة الانقسام والاستقطاب الثقافي والفكري تبرز قضايا السياسة والحكم، والموقف من الغرب الذي يحوز التقدم العلمي ويقود الحضارة الحديثة ويمارس أنماطاً مختلفة من الديموقراطية في الحكم وتوزيع الثروة واحترام حقوق الإنسان، وهي أمور تبدو متسقة مع جوهر التراث العربي الإسلامي لكن تبنيها يتعارض مع بعض مكونات التراث الإسلامي كما يهدد هويتنا الثقافية والقيم السائدة في المجتمعات العربية من وجهة نظر قطاعات من النخب والجماهير العربية، ترى في الليبرالية والفصل بين الدين والدولة مؤامرة يديرها الاستعمار الغربي المسيحي الذي يدعم إسرائيل. من هنا يوافق هؤلاء على الديموقراطية بشروط، ويتحفظون على الليبرالية بمعنى التسامح وقبول الآخر، ويرفضون فصل الدين عن الدولة، لكنهم يرفضون الدولة الدينية.
في المقابل، ترى قطاعات من النخب العربية والجماهير أن الديموقراطية والليبرالية والدولة المدنية التي تقوم على القانون والمساواة التامة بين المواطنين لا تتعارض مع التراث العربي الإسلامي، وحتى إذا كان هناك بعض الاختلافات فإن ضرورات الحياة تسمح بالتجديد والاستفادة من تجارب المجتمعات الأخرى في الحكم الرشيد، بخاصة أن الإسلام لا يلزم المسلمين بنظرية محددة في السياسة والحكم.
إرث الانقسام الثقافي والسياسي مفتاح بالغ الأهمية في رصد وفهم طبيعة الحراك السياسي في مصر بعد ثورة 25 يناير، وما يرتبط به من صراع وربما صدام. فجماعة «الإخوان المسلمين» التي تبدو حتى الآن أكبر الرابحين من الثورة تقدم نفسها كقطب جاذب لمعسكر الإسلام السياسي الوسطي الذي يؤمن بالديموقراطية والدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، بينما يقف حزب الوسط على يسار «الإخوان» في المعسكر ذاته بأطروحات تحديثية للإسلام السياسي تؤكد مدنية الدولة بمرجعية الحضارة العربية الإسلامية. أما الجماعات السلفية فتقف على يمين «الإخوان» في معسكر الإسلام السياسي بدعوتها لتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية. وتقدم تصريحات بعض شيوخ الجماعات السلفية مادة دسمة للتدليل على مدى التطرف والغلو في فهم الإسلام وتفسيره، بلغت اقتراح العودة إلى نظام العبيد والرق لحل المشكلات الاقتصادية، علاوة على الخروج للغزو لفرض الجزية أو الحصول على الغنائم من الأعداء!
وبصرف النظر عن الاختلافات في صفوف ممثلي الإسلام السياسي، فإن ثمة معسكراً واحداً يضمهم إلى جانب الطرق الصوفية، وقد عبر هذا المعسكر عن نفسه بقوة أثناء الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي أجريت في آذار (مارس) الماضي، لكن يلاحظ أن هذا المعسكر قابل للانقسام وربما الصدام بين مكوناته، أي أنه اصطفاف غير مستقر ومتحول وفق المصالح والتهديدات المشتركة أو المصالح الخاصة والاختلافات الفقهية. من جانب آخر، فإن غلو وتطرف خطاب بعض الجماعات السلفية يصب في مصلحة جماعة «الإخوان المسلمين»، التي تبدو أكثر اعتدالاً وتسامحاً وتنظيماً مقارنة بالتيار السلفي، خصوصاً أن مواقف الجماعة تؤيد باستمرار المجلس العسكري وتقدم نفسها كبديل وحيد للإسلام السياسي التحديثي المعتدل الذي يمتلك تجربة سياسية وخبرة تنظيمية تمكنها من الحكم أو على الأقل المشاركة في الحكم. لكن يظل اعتدال «الإخوان» مقارنة بتطرف السلفيين أمراً نسبياً، فجماعة «الإخوان المسلمين» تظل في التحليل الأخير مع تطبيق الشريعة الإسلامية، ومع الدولة ذات المرجعية الإسلامية التي يخشى كثير من المصريين – في مقدمهم المسيحيون - أن تكون نسخة معدلة من نماذج الحكم الإسلامي الفاشل في أفغانستان وإيران والسودان، بخاصة أن جماعة «الإخوان» لم تحدد المقصود بالمرجعية الإسلامية للدولة ولم تحسم موقفها من حق المسيحيين في الترشح للرئاسة.
مقابل معسكر جماعات الإسلام السياسي، ثمة اصطفاف مضاد من أنصار الدولة المدنية - إذا جاز التوصيف – ويتكون من مواطنين وأحزاب وجماعات من العلمانيين والليبراليين واليسار وكثير من القوميين ونشطاء حقوق الإنسان وجماعات المرأة، ويفتقر هذا المعسكر العريض إلى التنظيم والموارد والقدرة على التواصل مع الجماهير البسيطة في ريف مصر وحضرها، فضلاً عن غياب المرجعية الفكرية والسياسية المشتركة، ما يثير كثيراً من نقاط الخلاف والصدام بين المنتمين أو المؤيدين لما يطرحه أنصار هذا المعسكر من أفكار في شأن بناء الدولة المصرية في المستقبل وتوجهاتها السياسية والاجتماعية. لكن فرقاء معسكر الدولة المدنية يتفقون على مدنية وديموقراطية الدولة وضرورة تأجيل الانتخابات البرلمانية والبدء بإصدار دستور جديد قبل انتخابات مجلسي الشعب والشورى وانتخابات الرئيس.
والمفارقة أن هذا المعسكر المؤمن بالديموقراطية والليبرالية متهم بنزعته الطائفية حيث يلتف حوله المسيحيون، وهو أمر طبيعي بحكم أن هذا المعسكر يؤمن بالمساواة بين المسلمين والمسيحيين كمواطنين في دولة واحدة. لكن الإشكالية أن غالبية المسيحيين ملتزمة بتوجهات وسياسات الكنيسة وغير قادرة حتى الآن على الاشتراك في العمل العام كمواطنين وليس كرعايا للكنيسة. والمفارقة الثانية أن معسكر الدولة المدنية الذي يؤمن بالديموقراطية والحكم المدني يدعو المجلس العسكري للاستمرار في الحكم لمرحلة انتقالية تستمر لسنة ونصف السنة يمكن خلالها توفير الحد الأدنى من متطلبات الممارسة الديموقراطية مثل استعادة الأمن والاستقرار، وإتاحة حرية التنظيم والعمل النقابي والحزبي، خصوصاً أمام الأحزاب الجديدة، بينما يؤيد معسكر الإسلام السياسي خطة الطريق التي طرحها الجيش والتي تلتزم إجراء انتخابات مجلس الشعب في أيلول (سبتمبر) المقبل، وتسليم الجيش السلطة لرئيس منتخب في كانون الثاني (يناير) المقبل.
موقف معسكر الإسلام السياسي بقيادة «الإخوان» يمكن تفسيره بسهولة في ضوء أنهم أكثر قدرة وخبرة على خوض الانتخابات، وبالتالي في إمكانية تحقيق نصر كبير وسريع، ربما يمكنهم من الهيمنة على البرلمان للمرة الأولى في تاريخ مصر، خصوصاً أنهم يتمتعون بعلاقة جيدة مع المجلس العسكري، لكن يبدو أن حجم ومستوى الانتصارات التي حققتها الجماعة التي كانت محظورة قبل الثورة، قد أربكت حساباتها وأوقعتها في براثن الغرور، فقد أعلنت الجماعة أنها ستنافس في الانتخابات البرلمانية على ربع المقاعد، ثم ارتفعت النسبة إلى الثلث، ثم ارتفعت إلى النصف! وكانت أعلنت أنها لن تقدم مرشحاً للرئاسة، فإذا بالقيادي عبدالمنعم أبو الفتوح يعلن ترشيح نفسه، من دون أن يستقيل أو يقال من الجماعة! وتقدم «الإخوان» بمبادرة غامضة - غير ممكنة عملياً - تدعو أحزاب وقوى الثورة إلى خوض الانتخابات في قائمة واحدة، من دون تحديد لقواعد الاختيار وحصة كل حزب في هذه القائمة الموحدة. في الوقت ذاته نظم «الإخوان» وبعض الجماعات السلفية مؤتمرات جماهيرية مشتركة وأعلنوا عزمهم خوض الانتخابات في قوائم مشتركة.
هكذا طغت مظاهر الانقسام والاستقطاب الثقافي والسياسي على المشهد السياسي حتى وإن لم تعلن عن نفسها صراحة، فمعسكر المرجعية الإسلامية للدولة يؤيد خريطة الطريق التي أعلنها المجلس العسكري، وبالتالي لا يشارك في مؤتمر مصر الأول، ويرفض المشاركة في مؤتمر الوفاق الوطني الذي يهدف لوضع مسودة دستور جديد، كما يرفض الاشتراك في مليونية بعد غد الجمعة، بينما يتخذ معسكر الدولة المدنية الموقف المضاد على طول الخط، ما قد يثير قضية هل الانقسام والاستقطاب الثقافي السياسي هو سبب اختلاف المواقف السياسية بين المعسكرين أم إن اختلاف المواقف والمصالح السياسية هو الذي دفع الطرفين إلى استدعاء إرث الماضي وتوظيف الانقسام والاستقطاب الثقافي السياسي في خوض المعارك السياسية في مرحلة ما بعد الثورة.
ويخوض المعسكران الإسلامي والمدني حروباً كلامية وملاسنات وحملات تشويه متبادل تعمق ولا شك من الخلافات بينهما والأهم تقوض مناخ الثقة المتبادل بينهما، وتبدد كثيراً من طاقة الثورة. من هنا يشك الكثيرون في صدقية التزام الإسلاميين بالديموقراطية والدولة المدنية في حال وصولهم إلى الحكم عبر صناديق الانتخاب، ويقترحون استمرار الجيش كضامن للديموقراطية. وعلى رغم ما يثيره هذا المقترح من إشكاليات إلا أن الإشكالية الأهم هي: هل يمكن إنجاز التحول الديموقراطي في ظل استمرار هذا الاستقطاب والانقسام والذي بدأ يأخذ – سواء بالحق أو بالباطل – أبعاداً طائفية؟ إن هذه الإشكالية جديرة ليس فقط بالتأمل والدرس النظري بل بالحوار الجاد والمثمر بين المعسكرين، فلا مستقبل للديموقراطية والتنمية من دون مشاركة الجميع، ومن دون التوصل إلى توافق وطني عام على شكل الدولة وحقوق وواجبات متساوية لكل المواطنين يتم صوغها في دستور جديد يقبله أبناء مصر من دون تمييز أو تفرقة. وهنا لا بد لأنصار الدولة المدنية من أن يقدموا تأويلاً مقبولاً لماهية وحدود الدولة المدنية والاختلاف بينها وبين علمانية الدولة والتي يرفضها معظم المصريين. في المقابل، لا بد لدعاة الدولة ذات المرجعية الإسلامية أن يحددوا ما المقصود بهذه المرجعية وحدودها وضوابطها بما لا يتعارض مع حقوق المواطنة الكاملة لكل المصريين.
أعتقد أن تأويل الدولة المدنية وتأويل المقصود بالمرجعية الإسلامية، وكذلك تأويل المرجعية الحضارية العربية الإسلامية، سيفضي إلى نوع من الوضوح وربما التقارب بين الفرقاء، لا سيما أن هناك معسكراً وسطياً توافقياً في المجتمع المصري – خسر كثيراً من قوته بسبب مناخ الغلو والاستقطاب – سيدعم ويشجع هذا التقارب.
* كاتب مصري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق